في غزة المحاصرة لا يُبشر ضوء النهار بفرج قريب بل مجزرة جديدة تزهق فيها أرواح الجياع الذين يحلمون بكيس دقيق أبيض، فلم يعد هناك ترف للاختيار فإما أن تموت جوعًا، أو تُقتل وأنت تحاول النجاة.
وبات الطريق إلى الغذاء في غزة أشبه برحلة إلى المقصلة، إذ تصطف العائلات المنهكة على رصيف الانتظار من أجل الخبز، مغامرين بأرواحهم تحت نيران الاحتلال.
مصيدة “المساعدات”
في الساعات الأولى من 11 يونيو 2025، كان الشقيقان حاتم شلدان – 19 عامًا – وحمزة شلدان – 23 عامًا – على موعد مع المجهول قرب معبر نتساريم وسط قطاع غزة، إذ خرجا مع بزوغ الفجر على أمل الحصول على كيس دقيق واحد يُسند عائلتهما التي تتخذ من فصل دراسي مُهدَّم مأوى لهم، لكن حمزة عاد بجثمان شقيقه ملفوفًا بالكفن، بعدما حوّلت قذائف الاحتلال الإسرائيلي المكان إلى مقبرة مفتوحة.
ووفق مجلة “+972” الإسرائيلية، يصف حمزة اللحظات الأخيرة في حياة شقيقه، قبل أن ينفصل عنه وسط الفوضى، ويعود دون أن يجد له أثرًا، إذ يقول: “ركضنا فقط نحو أضواء الشاحنات”، في إشارة إلى المشهد الفوضوي الذي عاشاه وقتها، والذي امتدت فصوله السوداء إلى أن وصله خبر العثور على جثة حاتم في مستشفى شهداء الأقصى، بعد أن أصيب بشظايا في ساقيه، وظل ينزف حتى الموت دون إسعاف.
حصار وجوع ونار
وحسب “+972″، واستنادًا إلى شهادات ميدانية، فإن الاحتلال الإسرائيلي حوّل نقاط توزيع المساعدات إلى مناطق قتل جماعي، فمنذ أواخر مايو، بدأت كميات ضئيلة من المساعدات بالدخول إلى القطاع عبر مؤسسات إنسانية، مثل مؤسسة GHF المدعومة إسرائيلية وأمريكيًا وبرنامج الغذاء العالمي WFP، محمية من قبل جنود إسرائيليين ومتعاقدين أمنيين أمريكيين.
ومع الجوع الذي أنهك السكان، لم يعد الناس في غزة ينتظرون “الأمان” الموعود، بل أصبحوا يركضون نحو الشاحنات بمجرد ظهورها، ليجدوا في استقبالهم رصاصًا حيًا وقذائف مدفعية.
ووفقًا للمتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، استشهد أكثر من 400 فلسطيني وجُرح 3000 آخرون منذ 27 مايو 2025، في أثناء محاولتهم الوصول للمساعدات.
مجازر متكررة
وشهد شارع الرشيد بخان يونس مجازر متكررة، منها واحدة راح ضحيتها 25 فلسطينيًا، فجر 11 يونيو، وتكرر الأمر في 17 يونيو، عندما سقط 70 شهيدًا نتيجة قصف مباشر على الحشود التي انتظرت لساعات طويلة.
وفي 14 يونيو، وقع هجوم آخر على تجمع في منطقة نادي الفروسية شمال غرب القطاع، إذ نجا يوسف أبو جليلة بأعجوبة من الموت، بينما تمزقت جثث عشرات حوله، فيقول أبو جليلة: “شاب انقسم إلى نصفين.. كانوا فقط يحاولون إحضار الطعام”.
ويحكي محمد أبو شريعة – 17 عامًا – كيف غامر بحياته ليعود إلى عائلته المكونة من 9 أفراد بكيس دقيق واحد، إذ رأى أمامه رجالًا يُسحقون تحت عجلات الشاحنات، وآخرين يُطعنون بالسكاكين في فوضى مطاردة الخبز، لكنه عاد إلى المنزل منتصرًا، فقط لأنه استطاع أن يملأ بطون أحبّته بوجبة خبز أولى بعد جوع طال لشهرين.
قناصة أمريكية
محمد البسيوني – 22 عامًا – لم يكن أكثر حظًا، حين أصيب برصاص قناص في ظهره، 25 مايو 2025، في أثناء محاولته شراء دقيق لوالده المريض، ونُقل عبر عربة إلى غرفة العمليات، وعاد مكسورًا لا يحمل لعائلته طعامًا ولا أملًا، بعدما فقد والده المُعيل الوحيد.
محمود الكفارنة – 48 عامًا – سار ساعات من غزة إلى خان يونس، مرورًا بالنصيرات، للوصول إلى مركز إغاثة تديره مؤسسة الهلال الأحمر، وعند حاجز إسرائيلي، سمع عبر مكبرات الصوت: “لا يوجد توزيع، ارجعوا إلى دياركم”، قبل أن تبدأ قوات إسرائيلية بإطلاق النار على الحشود.
وحول ذلك يقول “الكفارنة”: “كانوا يصرخون علينا يا كلاب، ثم بدأت الرصاصات تتطاير فوق رؤوسنا.. الناس انهاروا من الجوع والخوف”.
وحين وصل إلى تلة المساعدات، وجد خلفها جنودًا بعتاد أمريكي كامل، يُصوّبون أسلحتهم إلى صدور الفلسطينيين، ويطلقون النار تحت أقدامهم.
ويصف الكفارنة المشهد قائلًا: “بدونا مثل الحيوانات التي تنتظر فتح ساحة التغذية”.
وتقول زهية السمور – 44 عامًا – التي نجت من قصف مدفعي في خان يونس، إن المجزرة أودت بحياة جيرانها الـ3، دون أن تُمكّن من إحضار ما يسد رمق أطفالها، عادت إلى خيمتها في المواصي، فارغة اليدين، مُثقلة القلب، “لا أعرف ماذا أقول لهم.. إنهم جوعى وينتظرونني”.