يعتزم الرئيس التونسي، قيس سعيّد، اختيار شخصيّة “تكنوقراطية” لترؤس الحكومة، تلبي تطلعات “قصر قرطاج” وتستطيع إدارة المفاوضات مع المانحين الدوليين، في ظلّ التوجُّه إلى الاقتراض من جديد، ومراكمة الدين لسدّ العجز الكبير في ميزان المدفوعات. وتفيد المؤشرات، في هذا الإطار، باتجاه سعيّد نحو اختيار اسم يتمتّع بخبرة اقتصادية، مثل محافظ المصرف المركزي المطروح اسمه إلى جانب اسمين آخرين، لتولّي مهمّة انتشال تونس من أزماتها التي فاقمتها حكومة هشام المشيشي.
وبحسب صحيفة الاخبار، يبحث الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بحسب ما تفيد به مؤشّرات خطواته الأخيرة، عن رجل اقتصاد موثوق من قِبَله لتولّي رئاسة الحكومة في المرحلة المقبلة، وهو اختيار يُعدّ مفهوماً بالنظر إلى مسعى الرئيس لإحداث انتعاشة اقتصادية على يد خبير يُتقن ما لا يتقنه هو نفسه، أي تصريف المسائل المالية، لا سيما لجهة العلاقة مع الدائنين الدوليين. مردّ ذلك العجز الاقتصادي الهائل الذي تعيشه البلاد، والذي شكّل، منذ بداية السنة الحالية، محطّ أنظار وكالات التصنيف الائتماني، في ضوء ارتفاع مخاطر عدم قدرة تونس على سداد الديون، بعدما تفاقم العجز التجاري، في الربعين الأوّل والثاني، ليبلغ نحو مليار و700 مليون دولار، وسط تسجيل عجز في تغطية الواردات بالصادرات، بلغت نسبته 73.8 في المئة، فيما سجّل النموّ 3- في المئة، وفق أرقام “المعهد الوطني للإحصاء”. وكانت حكومة هشام المشيشي اتُّهمت إبّان مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة، بتقديم معلومات مغلوطة عن الوضع الاقتصادي، وتوقّعات مخالِفة للمداخيل الحقيقية للبلاد، وذلك بغاية تحصيل الأصوات خلال جلسة المصادَقة على الموازنة. اتهاماتٌ سرعان ما اتضحت صحّتها، بإعلان وزير المالية المُقال، علي الكعلي، عدم قدرة تونس على سداد القروض وفوائدها التي حلَّ أجلها، ما دفعه إلى طلب الاقتراض من المصرف المركزي لسدّ عجز الموازنة. وفي ظلّ رفض هذا الأخير إقراض الحكومة، ما كان منها إلّا التوجُّه للاقتراض من المصارف المحليّة الخاصّة بفوائد عالية.
من هنا، يَفرض الوضع الاقتصادي الصعب على الرئيس التونسي خيارات محدّدة لجهة اختيار رئيس للحكومة، يتمتع بخبرة اقتصادية، وفي مستطاعه صياغة برامج لإخراج البلاد من مآزقها المتفاقمة، على أن يكون “مفاوضاً جيداً” مع صندوق النقد والبنك الدوليين القلقَين إزاء تطوّر الأوضاع في تونس. وبحسب المعلومات المتداولة، تتضمّن قائمة الترشيحات المرجّحة لدى الرئيس، ثلاثة أسماء لها خلفية اقتصادية، وفي مقدّمها محافظ المصرف المركزي، مروان العباسي، الذي يشغل منصبه منذ عام 2018، وهو الموظّف الرسمي الوحيد المتبقّي من تركة الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي. ويُعتبر العباسي المسؤول الأوّل عن تحديد سياسة النقد الوطني، الأمر الذي خوّله صدَّ محاولات المشيشي، ومن ورائه حزامه السياسي (على رأسه “النهضة”)، إقحام “المركزي” في دائرة إقراض الحكومة وتمويل عجز الموازنة، في ضربة قاصمة وجهت إلى رئيس الوزراء السابق، وحظيت برضى سعيّد. وعلى امتداد عامين من ولاية هذا الأخير، كانت العلاقة بين ساكن قصر قرطاج والمحافظ، على مستوى عالٍ من التفاهم والتناغم والتشاور، حيث شكّل الثنائي حلفاً غير معلن، حاصر المشيشي وحكومته سياسياً واقتصادياً.
الاسم الثاني المطروح لترؤّس الحكومة، هو حكيم بن حمودة، وزير الاقتصاد والمالية الأسبق، الذي عمل مستشاراً خاصاً لرئيس “البنك الدولي” منذ عام 2011، إضافة إلى تسييره عدداً من المؤسسات الأممية والدولية المعنية بالاقتصاد، وهو ما يجعل من “بروفايله” جذّاباً للتعامل مع المؤسسات المالية الدولية في المرحلة المقبلة. وتجدر الإشارة إلى أن بن حمودة كان مرشّحاً دائماً لرئاسة الحكومة على امتداد السنوات الماضية، إذ يحظى بدعم غالبية الأطراف السياسيين، باستثناء حركة “النهضة” التي عملت، في السنوات العشر الماضية، على اختيار شخصية “هشّة” لرئاسة الحكومة، تستطيع من خلالها فرض رؤيتها الاقتصادية من دون أن تتحمّل هي المسؤولية المباشرة عن ذلك. أمّا الشخصية الأخيرة المرشحة، فهي نزار يعيش، وزير المالية في حكومة إلياس الفخفاخ التي نجحت إلى حدّ ما في الخروج بأقلّ الأضرار الاقتصادية الممكنة مع بداية تفشي وباء “كورونا”. رسَم ظهور يعيش المفاجئ، في آذار الماضي، في لقاء مع سعيّد، تزامناً مع بلوغ الأزمة الاقتصادية ذروتها، علامات استفهام من حيث توقيته والثقة التي يحظى بها لدى الرئيس حتى يأخذ برأيه في كيفية معالجة الوضع المتأزّم، حيث قدّم يعيش يومها عرضاً مفصّلاً لوضع الاقتصاد والمالية العامة ومدى تأثيرهما في الأمن القومي. لقاءٌ جعل الأوساط السياسية، يومها، ترجّح خلافة يعيش للمشيشي في عزّ الأزمة بين قصرَي قرطاج والقصبة. وفي هذا الإطار، كشفت مصادر مقرّبة من الرئاسة، لـ”الأخبار”، أن العباسي ويعيش لا يزالان متردّدَين إزاء تولّي المهمّة، ما يجعل حكيم بن حمودة، الشخصية الأوفر حظّاً لترؤّس الحكومة. ولكن المسألة تبقى رهن تطوّر الأحداث أولاً، وموافقة المنظّمات الوطنية على ترشُّحه، فضلاً عن مقاربته وخططه لإنقاذ الاقتصاد بعيداً من الذهاب إلى خيار تعميق المديونية.
وفيما تشغل هذه الأسماء الثلاثة حيّزاً في التداول الإعلامي والسياسي، تبقى لسعيّد أوراق أخرى يُحتمل أن يلجأ إليها من خارج صندوق الأسماء المتداولة، أبرزها ثريا الجريبي، وزيرة العدل السابقة، والتي أقالها المشيشي كـ”عقاب على وفائها للرئيس”. ويتبّين من خيارات سعيّد أنه يريد مجلساً وزارياً متجانساً وموثوقاً من قِبَله، يعمل ضمن أجندة قصر قرطاج. في هذا الوقت، لا تزال القوى الوطنية في انتظار اختيار الشخصية التي ستشغل قصر القصبة، لمعرفة مسار المرحلة المقبلة، خصوصاً أن أمام الرئيس أقلّ من شهر قبل انتهاء المرحلة الانتقالية إن لم يُقدِم على تمديدها. وهو ما يتجلّى في موقف “الاتحاد العام التونسي للشغل” الذي أعلن أنه سيقدّم خريطة الطريق للمرحلة المقبلة بعد معرفة اسم رئيس الحكومة.
تشرذم “النهضة”
اختتمت حركة “النهضة”، أمس، اجتماع مجلس الشورى بعدما فشلت محاولات رئيسها، راشد الغنوشي، في منع انعقاد المجلس في ظلّ انقسام واضح في صفوف الحزب، ووسط تصاعد الدعوات إلى إبعاده عن رئاستي البرلمان والحركة وحلّ المكتب التنفيذي المتكوّن أساساً من حاشية الغنوشي والمسيطر على توجّهات الحزب ومواقفه. وسجّل الاجتماع انسحاب عدد من أعضاء المجلس الرافضين أن يكونوا “شهود زور”، على حدّ وصفهم، في إشارة إلى عدم تبنّيهم مخرجات الاجتماع، ولا بيانه الختامي. وأكد الغنوشي، في البيان الختامي للاجتماع، تجديد رفضه لـ”انقلاب” سعيّد، داعياً إلى تحويل إجراءات الرئيس إلى “فرصة للإصلاح وإلى أن تكون هذه المرحلة حلقة من حلقات التحوّل الديموقراطي المبنية على حوار وطني”، وإلى التسريع في اختيار رئيس جديد للحكومة في أقرب الآجال.
وكالات