تحل الجمعة (18 مارس/آذار)، ذكرى 60 عاما على توقيع اتفاقيات “إيفيان” التي مهّدت لاستقلال الجزائر عام 1962، وأنهت حقبة استعمارية فرنسية امتدت 132 عاما.
وجاءت هذه الاتفاقيات نتيجة مفاوضات طويلة ومعقّدة تُوّجت بالتوقيع عليها بين الجزائر وفرنسا يوم 18 مارس/آذار 1962 في مدينة إيفيان الفرنسية.
وتُعد المصادقة على هذه الاتفاقيات انتصارا كبيرا لنضالات الثوار الجزائريين ضد المستعمر الفرنسي الذي تكبد خسائر فادحة، وتتويجا لثورة التحرير التي انبلجت في نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
جرح لا يندمل
ورغم مرور 60 عاما على الاتفاقيات التي أنهت الحرب، لا تزال تداعيات الحقبة الاستعمارية كبيرة، ولم يستطع الزمن محو آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية على الجانبين.
لذلك بقيت العلاقة بين الجزائر وفرنسا متقلبة؛ بين الحذر والحساسية والغموض والانفراج والتوتر، وبقي جرح الذاكرة مفتوحا على المجهول، ولا سيما مع وجود ملفات عدة لم تغلقها الاتفاقيات بين الدولتين.
ويرجع أستاذ علم الاجتماع المدير السابق للمعهد المغاربي الأوروبي بباريس عيسى قادري، هذه العلاقة المعقدة لعدة أسباب؛ منها أن الجزائر بقيت لأكثر من قرن مقاطعة فرنسية، وكان يعيش فيها أكثر من مليون فرنسي، وحين عادت هذه الجالية إلى بلادها بعد الاستقلال حملت معها ذاكرة صعبة من الحرب بين الجزائر وفرنسا.
ويضيف قادري للجزيرة نت “لا ننسى أيضا هذا التضامن والتعاون الكبيرين بين الشعبين الجزائري والفرنسي إبان الاستقلال، في مجالات كثيرة كالطاقة والتعليم والثقافة. ومع ذلك شهدت هذه العلاقة تقلبات من منتصف السبعينيات وحتى الثمانينيات خاصة مع غلق فرنسا لحدودها في وجه الهجرة الجزائرية”.
وفي المحصلة، يقول قادري، إن “العلاقات الدولية عموما في صعود وهبوط وتقلّب، فما بالك بعلاقة استعمارية كهذه.. إنها علاقة قائمة على التناقضات وعلى التقلبات”.
حرب الذاكرة
ومع مجيء إيمانويل ماكرون للحكم، كأول رئيس فرنسي وُلد بعد حرب الجزائر، بدأ تحول في العلاقات الفرنسية الجزائرية. ففي فبراير/شباط 2017، وبينما كان مرشحا للانتخابات الرئاسية، أثار تصريحه من الجزائر والذي قال فيه إن “الاستعمار جريمة ضد الإنسانية”، ضجة كبرى.
وبعد انتخابه، قام ماكرون بسلسلة من الخطوات لتنقية الذاكرة وسعيا للمصالحة بين البلدين. لكنه لم يذهب إلى حد تقديم اعتذار عن الاستعمار، وهو موضوع حسّاس للغاية في فرنسا، حيث يجد الخطاب القومي المتطرف مزيدا من الآذان المصغية.
ويرى المحلل السياسي ومدير مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي في جنيف حسني عبيدي، أن اتفاقيات “إيفيان” هي الوحيدة في القرن الـ20 بين مستعمِر ومستعمَر التي بقيت صامدة حتى اليوم.
وقال عبيدي إن “60 عاما فترة وجيزة وقصيرة في حياة وتاريخ الأمم، خاصة لمّا نعلم أن الاستعمار الفرنسي دام 132 سنة، واختلف عن الاستعمار البريطاني مثلا في كونه يضرب مباشرة جذور الهوية والثقافة ويسعى لسلبها وزرع هوية جديدة خاصة بها”.
وقضية الهوية، حسب عبيدي، هي مرآة الذاكرة عند الشعوب. “والذاكرة الجزائرية هي ذاكرة حرب، مجروحة ومعنّفة، خلقت هوية مضطربة لكثير من الجزائريين”.
وبعيدا عن جروح الذاكرة وعن الأضواء، يتواصل التعاون بين البلدين سرّا في عدة قضايا، وهو ما جعل الكاتب نوفل إبراهيمي الميلي، يقول في مؤلفه “فرنسا والجزائر.. 50 عاما من القصص السرية”، إن العلاقات الفرنسية الجزائرية جيدة عندما تكون سرية، وتصبح صدامية في العلن.
الاتفاقيات والانتخابات
وتحل ذكرى اتفاقيات “إيفيان” هذه المرة في توقيت دقيق وحساس، وقبل أسبوعين على انطلاق الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية، مما يعطيها زخما خاصا.
ومن المتوقع أن يعلن الرئيس ماكرون في خطابه يوم 19 مارس/آذار بمناسبة الذكرى الـ60 لاتفاقيات إيفيان، عن إجراءات مهمة لمصالحة الذاكرة بين الفرنسيين والجزائريين.
ويلفت المحلل عبيدي إلى أنه رغم رمزية هذا اليوم، فإن الظرف الانتخابي سيجعل الرئيس ماكرون في عمق الحملة الانتخابية، وستكون أي مبادرة محسوبة ولها نتائج مباشرة على حملته الانتخابية، خاصة مع تربّص قوى اليمين المتطرف لأي خطوة من شأنها تقديم تنازلات للجزائر من قبل الدولة الفرنسية.
مقاربات قديمة وحديثة
وتحمل اتفاقيات “إيفيان” في باطنها عبرا ودروسا رمزية حاول الكثير من الكُتاب والمؤرخين تدوينها. وفي هذا الصدد، يُذكر كتاب “اتفاقيات إيفيان نهاية حرب التحرير في الجزائر” لصاحبه بن يوسف بن خدة؛ أحد الذين صاغوا هذه الاتفاقيات، وأول رئيس للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية إبان الاستقلال.
وفي نفس هذا السياق، صدر حديثا كتاب مشترك للكاتب حسني عبيدي يخوض في هذه الاتفاقيات ويحمل عنوان “60 عاما بعد اتفاقيات إيفيان.. نظرات متقاطعة لذاكرة جماعية”.
ويقول عبيدي إنه حاول اعتماد مقاربة جديدة في معالجة اتفاقيات “إيفيان” وشرح قيمتها المضافة من خلال هذا الكتاب. كما حاول تجاوز الجانب التأريخي ومجرد الاحتفال بالذكرى، والغوص عميقا في هذه الاتفاقيات كمحطة سياسية مهمة في تاريخ الجزائر وفرنسا تحاول تكريس السلم والحوار بعد الحرب والمواجهات العسكرية.
وهذه القناعة المبنية على ثقافة الحوار السياسي والمفاوضات، فرضت نفسها في الجانبين الفرنسي والجزائري، كما يقول عبيدي.