فرانز فانون طبيب ومناضل وفيلسوف فرنسي جزائري من مواليد 1925، انضم إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية وكتب عن قضايا الاستعمار وإنهائه، ونظّر لثورة الشعوب وتفكيك الاستلاب (الاغتراب الاجتماعي) الذي يسببه الاستعمار لضحاياه.
ألهمت أفكاره المناضلين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وشكلت باكورة حقل “دراسات ما بعد الاستعمار” التي تركز على ما تركه المستعمر لاستغلال السكان الأصليين في الأراضي المستعمرة، وعاجلته المنية وهو في زهرة شبابه عام 1961.
المولد والنشأة
ولد فرانز فانون في 20 يوليو/تموز 1925 في فور دو فرانس بجزيرة المارتينيك الواقعة في البحر الكاريبي، والتي تمثل جزءا من أراضي ما وراء البحار الفرنسية.
كانت عائلته تنتمي إلى أوساط البرجوازية الصغيرة، فوالده كاسيمير فانون كان يعمل مفتش جمارك، فيما كانت أمه إليونور فيليسيا مدليس تاجرة، وكان فرانز الخامس في الترتيب بين 8 إخوة وأخوات.
يصف شقيقه جوبي فانون في سيرة كتبها عن حياته أجواء نشأته، حيث كان والدهم على قناعة شديدة بأهمية الدراسة ويحثهم على عدم الاكتفاء بما يتلقونه من المدرسين.
ورغم وضع الأسرة المريح ماديا فإن جوبي يصف المدينة التي احتضنت طفولة فرانز ومراهقته بـ”المدينة الفاشلة” التي كانت مظاهر الفقر فيها صادمة.
الدراسة والتكوين
درس فانون في مسقط رأسه بثانوية شويلشير وأدمن المطالعة في مكتبتها، وفيها تعرف على الأديب والسياسي إيمي سيزير الذي كان حينها مدرسا فيها، مع أنه لم يدرس عنده بشكل مباشر.
تقدم مبكرا لنيل شهادة الثانوية العامة، فقرر الاعتكاف في المكتبة والتركيز على القراءة لأدباء النهضة، ويصف شقيقه جوبي كيف كان فرانز يحفظ عن ظهر قلب مقاطع طويلة من تلك المطالعات.
نجح فرانز في الشق الكتابي، لكنه أقصي في البداية من الشق الشفوي من الامتحان، وحصل على الشهادة الثانوية لاحقا بعد العودة من محاولته الأولى للتطوع في قوات فرنسا الحرة، وهي محاولة بدأها في 13 يوليو/تموز 1943 رغم معارضة المحيطين به، إذ كان يُنظر إلى حد بعيد للحرب في بيئته على أنها “حرب بين البيض لا تعني المستعمَرين في شيء”، لكنه برر موقفه قائلا “أينما تُمس الحرية أشعر أنني معني، نحن جميعا معنيون مهما كانت ألواننا، بيضا أو سودا أو صفرا”.
كانت تغطية أحداث الحرب العالمية الثانية تصل إلى المارتينيك عبر أثير الإذاعات وتابعها فانون عن كثب، ثم التحق بالكتيبة الخامسة من قوات فرنسا الحرة وأبحر معها في 12 مارس/آذار 1944 إلى شمال أفريقيا.
ورغم ضجره ورفاقه من التدريب والتعليمات العسكرية الروتينية “لكونهم انضموا إلى الجيش لكي يقاتلوا الألمان” فقد أثبت جدارته في أرض المعركة وأثنى عليه قادته وتلقى التشجيع، لكنه أصيب خلال المعارك قرب جنيف وقضى فترة بين العلاج والنقاهة وعاد إلى الجبهة.
وسُرّح فانون في 18 مايو/أيار 1945 بعد اكتمال حرب فرنسا ضد النازية، وعاد إلى المارتينيك في 12 سبتمبر/أيلول 1945، وخلال تجربة التجنيد عايش العنصرية ضد السود وأصبح أكثر وعيا بقضايا الاستعمار.
حصل فانون بعد عودته من جبهة القتال على إحدى المنح التي كانت متاحة لمن قاتلوا في الحرب، ثم انتقل إلى مدينة ليون بفرنسا حيث بدأ دراسة الطب، وإلى جانب دراسته ظل مواظبا على حضور محاضرات في الفلسفة والآداب، كما شارك في النشاط الطلابي.
تجربة الجزائر
مع تخرجه طبيبا كانت رغبته أن يعمل في بلده المارتينيك، ولعدم وجود وظائف شاغرة حاول الالتحاق بأحد بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، لكنه في النهاية انتقل إلى العمل بمستشفى البليدة في الجزائر التي وصل إليها في ديسمبر/كانون الأول 1953، قبل نحو عام من اندلاع شرارة ثورة التحرير في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
ولكونه قادما من بلد مستعمَر فقد تعرف على ذاته في بلد آخر تحتله القوة الاستعمارية نفسها كما تقول زوجته جوسي فانون، وأكسبه عمله طبيبا نفسيا واتصاله بالمرضى والممرضين فهما للأوضاع، وسرعان ما عاين عن قرب تأثيرات الاستعمار النفسية، ليس على ضحاياه الواقعين تحت القمع والتعذيب فحسب، بل حتى على جنوده المتورطين في التعذيب والفظائع.
عمل فانون لسنوات في علاج المرضى النفسيين، وطبق أساليب جديدة في العلاج النفسي كإلغاء استخدام “سترة المجانين” التي كانت مستعملة بكثرة قبل اكتشاف المهدئات العصبية، كما اعتمد وسائل ذات علاقة بثقافة المرضى كالألعاب والغناء والقصص، ورفض المفاهيم الطبية العنصرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت كالاعتماد على شكل الجمجمة وغيره.
وإلى جانب مهمته الطبية أعمل مشرطه في تأمل وتشريح ظواهر الواقع الاستعماري التي كان على تماس معها، وبدأ الطبيب الشاب يقترب تدريجيا من جبهة التحرير الوطني التي كانت له معها اتصالات وإسهامات، وانتهى به الأمر إلى الاستقالة من مهنة الطب عبر رسالة انتقد فيها ممارسات الاستعمار و”حقده” على الجزائريين.
وجاء في رسالته “أستطيع القول إني وقد وُضعت على مفترق الطرق هذا وقفت مرعوبا من حجم الاستلاب الذي يعانيه سكان هذا البلد، وإذا كان علم النفس هو الوسيلة الطبية التي تسعى إلى أن تتيح للإنسان ألا يشعر بالغربة في بيئته فإنه يلزمني أن أؤكد أن العربي المستلَب على الدوام في بلاده يعيش في حالة من الاقتلاع المطلق للشخصية”.
بعد استقالته أصدرت السلطات الاستعمارية قرارا بطرده من الجزائر، فبادر إلى الالتحاق بجبهة التحرير الوطني في تونس وعمل في وسائلها الإعلامية، منها صحيفتا “المقاومة الجزائرية” و”المجاهد”.
وتولى فانون مهمات دبلوماسية لصالح الجبهة، حيث كان ممثلها في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وكان يسافر في هذه الفترة بجواز سفر صادر عن المملكة الليبية باسم “عمر إبراهيم فانون”.
ضد العنصرية
شكّل كتاب “بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء” -الذي نشره فانون وهو في الـ27 من العمر عام 1952- باكورة أعماله الفكرية، وأظهر الكتاب قدرته على استخدام أدوات حقول معرفية مختلفة، كالتحليل النفسي والفلسفة واللسانيات والأدب والمفاهيم المبكرة لتيار “الزنوجة” لتحليل حالة العُصاب الجماعي التي يسببها الاستعمار.
ويحاول فانون في الكتاب فهم أسس العنصرية ضد السود في خبايا الوعي والمجتمع، ومثلت أفكاره حول العنصرية ضد السود وكيف “تشكّل ثم تشوه” ذاتية كل من الأبيض والأسود معا مقدمة أساسية لفهم المستويات المتعددة للقهر الاستعماري وشروط التغلب عليه.
ولاحقا، مثلت تجربة الجزائر وبلدان جنوب الصحراء عاملا وسع اهتمامات فانون، فبعد أن ركز في عمله الأول على العنصرية ضد السود سجل تحولا مع كتابه “المعذبون في الأرض” المنشور عام 1961، إذ تناول الاستعمار باعتباره قضية أوسع تمس المقموعين في الجزء الجنوبي من العالم.
من الوطنية إلى الإنسانية
وبدا فانون حريصا على أن يقتنع المستعمَر بأنه ليس للاستعمار أي منة عليه في مسار إحراز الاستقلال، ذلك أن “ما يحصل عليه المستعمَر بالنضال السياسي والمسلح ليس نتيجة لحسن نية المستعمِر ولا طيبة قلبه”، بل هو ترجمة لكون القوة الاستعمارية باتت ترى تأجيل التنازلات مستحيلا.
ولا يفوته الانتباه إلى الثغرات التي تمكن الاستعمار من الاستمرار، وقد بدا مرتابا مما تشهده الأحزاب الوطنية من “تعايش إرادة كسر الاستعمار مع إرادة أخرى هي التفاهم الودي معه”، بل ويحصل -كما يقول- أن يغادر الاستعمار مناطق لم تتعرض بما يكفي لهزات النضال من أجل الحرية، فنجد “المثقفين الماكرين” يحافظون على السلوكيات والأشكال التي تلقوها أثناء معايشة البرجوازية الاستعمارية كما هي دون تغيير.
ويبدي فانون تفهمه استدعاء الهويات الوطنية والمحلية في مقاومة الاستعمار، لكنه يؤكد ضرورة تجاوز الوطنيات في النهاية نحو نضال إنساني، لأن النضال هو ما يصنع التغيير الذي لا يحدثه مجرد “إظهار ثقافة أو تقاليد من الماضي”، فالاستعمار “لن يشعر بالخزي إذا عرضنا أمام ناظريه كنوزا ثقافية مجهولة” كما يقول، ولتجنب هذه المآلات يقترح فانون الاهتمام بالريف والتركيز على تثقيف الجماهير “التي تستطيع قيادة نفسها بنفسها”.
الأعمال والتأثير
تجاوز تأثير فانون إنتاجه المحدود من حيث العدد، فقد استمر نشاطه الفكري لنحو عقد من الزمان فقط، وهو أمر لا يقارن بغيره من المفكرين كما يرى جون درابنسكي الذي حرر مقالا مطولا عن فانون في موسوعة ستانفورد للفلسفة.
ولا يبدو أن فانون كان يضع في الحسبان التأثير العميق الذي أحدثته أفكاره التي كان همها المركزي تحرير الإنسان، ذلك أنه -كما نقلت عنه زوجته- كان يراوده الأمل في أن يواصل العمل طبيبا نفسيا، ولم يكن يطمح لأن يكون رجل سياسة.
ويعد كتاباه “بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء” و”المعذبون في الأرض” أهم أعماله، فيما كانت بقية كتبه مجموعات لمقالات ودراسات متفرقة وبعضها نشرت بعد وفاته، ورغم ذلك كان تأثيره كبيرا، فقد اعتمد مناضلون في أميركا اللاتينية على رؤاه كما حصل في أفريقيا وجنوب آسيا.
وعلى المستوى الأكاديمي، أثر فكره في إدوارد سعيد وعلي شريعتي وغيرهما، وكان تأثيره في الدراسات الثقافية ملموسا، واستخدمت مفاهيمه في معالجة قضايا العرق والأمة والهجرة وغيرها، وتمثلت أبرز أعمال فانون في:
- “بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء”، نشر عام 1952.
- “العام الخامس للثورة الجزائرية”، نشر عام 1959.
- “المعذبون في الأرض”، نشر عام 1961.
- “من أجل الثورة الأفريقية”، نشر عام 1964.
- “نصوص حول الاستلاب والحرية- مجموعة أعمال عام 2011”.
- “نصوص حول الاستلاب والحرية- مجموعة أعمال 2 للعام 2018”.
الوفاة
توفي فانون في السادس من ديسمبر/كانون الأول 1961 بالولايات المتحدة متأثرا بسرطان الدم عن 36 عاما، ونقل جثمانه إلى تونس ومنها إلى الأراضي الجزائرية وفقا لرغبته، حيث دفن في مربع الشهداء بعين الكرمة في منطقة الطارف شمال شرقي الجزائر.