وبتعامله الدائم مع السلطات الإسبانية، بدأت تتسع معرفته بنوايا وأهداف الاحتلال، حيث قال في مذكراته “لم أعتبر يوماً الحضارة الغربية غاية السعادة والاستقرار، وكنت كلما ازداد احتكاكي بالإسبان والأوروبيين بصفة عامة، ازداد إيماني بأنهم يعيشون في حلم الاستعمار والاستغلال للغير واستعباده، فأزداد بُعداً عن حضارتهم، وعن كل ما يسمونه تقدماً ورقياً، بينما يسخرونه لمصلحتهم دون بقية الإنسانية”.
بدأت حياة محمّد بن عبد الكريم الخطابي تظهر منذ نعومة أظفاره، عندما سمّاه والده محمدٌ تيمنًا بالرّسول الكريم، فقد تربّى التّربية الصّالحة، التي أخرجت منه رجلًا هادئًا، ونابغًا محنكًا جعلته يتهيّأ لحياة تسودها الحريّة والعدل، في ظلّ الحياة الجهاديّة التي كانت أساس منشأه مع والده المجاهد عبد الكريم الخطابي في الرّيف وقد عُيّن أميرًا وقائدًا للمغرب العربي حتى أسس “إمارة الريف الإسلاميّة” في شمال المغرب الإسلامي، قام من خلالها بتعليم النّاسالدين الإسلامي الصّحيح بعيدًا عن عالم الشّعوذة والدّروشة وقام بإرسال البعثات العلميّة لدول العالم، ووحّد صفوف القبائل المتناحرة تحت راية الإسلام.
وكان المغرب قد شهد في بداية القرن العشرين حالة عدم استقرار عبر اتساع رقعة التمرد على النظام، بالإضافة إلى سعي زعماء القبائل إلى تقوية نفوذهم على حساب السلطة المركزية، وفي خضم ذلك كانت علاقة منطقة الريف بـ”المخزن” (السلطة المركزية) سيئة جداً. وساهم ضعف الدولة المركزية في تسهيل مهمة فرنسا وإسبانيا في احتلال المغرب في بداية القرن العشرين.
وكانت عائلة الخطابي تتمتع بحظوة لدى أهل منطقة الريف، ما ساهم، إلى جانب المكانة القيادية التي بات يتحلى بها الزعيم محمد بن عبدالكريم، في تمكنه من توحيد قبائل المنطقة، وإنهاء الصراعات التي كانت تعانيها تلك المنطقة. وانطلقت إثر ذلك شرارة “حرب التحرير الثانية” في صيف عام 1921، والتي عرفت مواجهات عدة مع قوات الاحتلال.
وتمكنت “المقاومة الريفية” من هزيمة قوات الاحتلال في محطات عدة، وذلك على الرغم من قلة مقاتليها وضعف تسليحهم مقارنةً بجيوش الاحتلال. وتُعد معركة أنوال التي جرت في يوليو (تموز) 1921، أبرز تعبير على فشل الجيش الاسباني، وأقوى حدث تاريخي يخلد قوة المقاومة المغربية ضد الاحتلال. وكان تعداد القوات الإسبانية يفوق الـ24 ألف مقاتل، في حين كان جيش الريف يضم 5 آلاف جندي فقط، وبعد خمسة أيام من الحرب تمكن المقاومون الريفيون من سحق الجيش الإسباني الذي فقد أكثر من 15 ألف مقاتل بمن فيهم قائد القوة المهاجمة الجنرال سلفستري. ويروي الخطابي في مذكراته عن المعركة أن الانتصار في أنوال مكنهم من الحصول على “200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77، وأكثر من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تحصى من القذائف، وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموين كثير يتجاوز الحاجة، وأدوية وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها، بات لدينا كل ما كان يعوزنا لنجهز جيشاً، ونشن حرباً كبيرة، وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح”.
وذكر وزير الإعلام المغربي السابق، محمد العربي المساري، في كتاب “محمد عبدالكريم الخطابي، من القبيلة إلى الوطن”، أن “الأحداث الجليلة التي شهدتها المنطقة (منطقة الريف) هي قصة ملحمة بدأت بـ18 بندقية، هزمت جيوشاً جرارة، وصل تعدادها في أحد الأوقات إلى 360 ألف مقاتل، كان عتادهم يمثل أحدث ما أنتجته الصناعة الحربية الأوروبية في ذلك الوقت”، معتبراً أن “تلك الحرب ضعضعت إسبانيا وكلفتها استقرارها وسمعتها، وكان وراء كل ذلك رجل هادئ بسيط، تلقى العلوم الشرعية ليجهز نفسه للمساهمة في بناء حياة يكتنفها السلم والعدل. إن التاريخ احتفظ للخطابي بصفحة مكتوبة بمداد البطولة، حيث يتردد اسمه برنين يشابه جلال أعظم الأولياء”.
وبذلك الانتصار الهائل قويت شوكة منطقة الريف بعد أن أصبح لها جيش قوي بمعدات مهمة، الأمر الذي شجع “زعيم الريف” على إنشاء كيان مستقل.
نفت القوات الفرنسية الخطابي وعائلته إلى جزيرة لارينيون وبعد أكثر من عشرين عاما في المنفى، قرروا نقله إلى فرنسا، وأثناء مرور الباخرة ببورسعيد طلب حق اللجوء السياسي من الملك فاروق، واستجيب فورا إلى طلبه، وقد ظل مقيما بمصر حتى وفاته، وقد لجأ معه لمصر عمه الأمير عبد السلام الخطابى، وشقيقه “الأمير محمد عبد الكريم الخطابى” وزوجاتهم وأولادهم.