يوجد في دول شمال أفريقيا حضارة عريقة ومناطق سياحية وآثار جميلة وراقية، وهذا ما جعل معظم هذه المناطق مصدر دخل اقتصادي مهم، ورغم ما مر عبر التاريخ من صراعات أدت إلى تخريب وسرقة أشياء ثمينة من قبل الاستعمار، بيد أن أصل الحضارة بقي برونقه وبريقه اللامع.
لا تزال أطماع الغرب تتجه نحو هذه المناطق الغنية بآثارها وكنوزها الباطنية، فإلى الآن نرى أن الهيمنة الغربية على الشمال الأفريقي مستمرة بطرق وأشكال تختلف عن زمن الاستعمار، فهي الآن تستخدم الوجه الناعم الذي يخفي خلفه نوايا تستهدف
سكان خمس مدن عتيقة في أكبر بلد أفريقي من حيث المساحة، لا يدخرون جهدا في سبيل حماية نمط حياتهم التقليدي والحفاظ عليه، وتقع الجزائر، التي تعد أكبر دولة في أفريقيا، وعاشر أكبر دولة على مستوى العالم من حيث المساحة، بين المغرب وتونس، وعلى الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل أوروبا. وتبلغ مساحتها قرابة 2.4 مليون كيلومتر مربع، أي أكبر من المملكة المتحدة بعشرة أضعاف، وتتنوع تضاريسها بين سلاسل الجبال المرتفعة والصحاري الحارقة والأطلال الرومانية التاريخية.
وتحتل الصحراء الكبرى، مساحة كبيرة من الجزائر، نحو خمس مساحتها الإجمالية. وتعد الصحراء الكبرى أكبر صحراء حارة في العالم، وتضم أراضيها القاحلة مترامية الأطراف كتلا صخرية بركانية وسهولا حصوية وعروقا رملية أو “بحور الرمال”.
ويعد العرق الغربي الكبير (الذي يظهر في الصورة) واحدا من أكبر العروق الرملية، إذ تغطي كثبانه الرملية الممتدة على مرمى البصر، مساحة تعادل ضعف مساحة بلجيكا.
وبينما يعيش عدد قليل من الجزائريين في هذه البيئة القاسية، فإن سلسلة من المستوطنات الاستثنائية أُقيمت على قمم التلال في الأطراف الشمالية للصحراء الكبرى، ويطلق عليها القصور التاريخية الخمسة أو المدن المحصنة بوادي مزاب. وقد أنشئت هذه القلاع المدهشة، التي يشار إليها باسم القصور (المدن) الخمسة، منذ قرون بمحاذاة وادي مزاب، وهو قاع نهر جاف جزئيا، لا ترتفع فيه المياه إلا مرة واحدة كل ثلاث أو خمس سنوات. وتتضمن هذه المدن، العطف، التي أسست في عام 1012، وتعد أقدم هذه المدن، ومليكة وبنورة ومدينة بني يزقن المقدسة، وغرداية (التي تظهر في الصورة)، وتعد المستوطنة الرئيسية والقلب التجاري للوادي.
وفي عام 1982، أدرجت منظمة اليونسكو قصور وادي مزاب على قائمة التراث العالمي، نظرا لتميزها الثقافي وهويتها العمرانية.
ويقول خالد ميغنين، أحد المرشدين السياحيين بالمنطقة: “تمتاز هذه المنطقة بأنها يسكنها مجموعة فريدة من السكان الأصليين لشمال أفريقيا (المزابيين) الذين يتبعون المذهب الإباضي، وأقام هؤلاء المنازل المحصنة وسط الصحراء. فلا يوجد مكان في الجزائر أو في أي مكان في العالم يشبه سهل وادي مزاب”.
أسس مدن وادي مزاب المزابيون الأوائل (بني مزاب)، وهم قبائل شبه رحل لهم لغتهم الخاصة المزابية (تومزابت). ويتجاوز عدد سكان المدن الآن 360 ألف نسمة. وكان المزابيون الأوائل يستكشفون هذا الجزء من الجزائر منذ القرن الثامن تقريبا، ولما أدركوا أن التصحر يلتهم مساحات متزايدة من أراضي المنطقة، عقدوا العزم على الاستقرار والتأقلم مع البيئة القاسية. وأسسوا مدنهم في الفترة ما بين القرن الحادي عشر والرابع عشر. ويتوسط كل مدينة من المدن مسجد، له مئذنة تستخدم برجا للمراقبة. وزرع المزابيون بساتين النخيل لتحميهم من قيظ الصيف.
ويقول ميغنين: “إن نجاح مجتمعاتهم في التأقلم وتحقيق الازدهار في هذه البيئة الموحشة، يعد إنجازا يفوق التصور. ولهذا يعتز السكان بثقافتهم التي صمدت أمام صروف الدهر لأكثر من ألف عام، ولا يألون جهدا في الحفاظ عليها”.
أقام المزابيون في كل مدينة شبكة مركزة من الطرق، أضيقها يسع بالكاد حمارا يحمل بضاعة، بينما صممت الطرق الرئيسية المؤدية إلى السوق لتسع جملا. ويخصص في كل منزل من منازل المدن الحجرية الشبيهة بالصنادق مكان لماعز تمنح الأسرة اللبن وتستهلك بقايا الطعام.
ويقول ميغنين: “بخلاف الكهرباء التي دخلت المنازل في الخمسينيات من القرن الماضي، لم تطرأ إلا تغييرات بسيطة على نمط الحياة اليومي في المراكز التاريخية منذ تأسيس المدن، ولا يرغب السكان في تغييره. فلا يزال السكان يلتزمون بالتقاليد والأعراف التي تنظم الاصطفاف في طوابير أمام مضخات المياه، إذ يحصل الأطفال أولا على المياه ثم النساء وأخيرا الرجال. ويواظبون على طلاء الجدران في الخارج باللون الأزرق لتلطيف الجو وإبعاد البعوض”.
وتقتضي التقاليد والأعراف أيضا أن تقضي النساء معظم أوقاتهن داخل المنزل في الأفنية المحاطة بجدران عالية للحفاظ على الخصوصية. ويقول ميغنين: “في بني يزقن، يمكن رؤية هذه الأفنية من برج المراقبة، ولهذا يُمنع الزوار من دخول المدينة وتسلق البرج إلا بعد صلاة الظهر، لإتاحة الفرصة للنساء لقضاء جزء من النهار في الخارج دون أن يراهن أحد”.
منذ قرون عدة تحول المزابيون من مذهب الاعتزال إلى المذهب الإباضي، ويتركز الإباضيون الآن في ثلاث مناطق فقط في شمال أفريقيا، هي وادي مزاب وجربة في تونس وجبل نفوسة في ليبيا. ويقول الغالي لاجون، مرشد سياحي من وادي مزاب: “اشتهر الإباضيون بترابطهم وتسامحهم، ويعيشون منذ قديم الزمن جنبا إلى جنب مع الآخرين ويتعاونون معهم. فقد كان يرعى قطعان الماعز لديهم قديما راعي غنم عربي خارج أسوار مدنهم. فالمزابيين ليسوا بطبيعتهم رعاة أغنام، على عكس العرب. وكانوا يشترون الحلي والمشغولات النحاسية من اليهود. ولا يزال يعيش هنا مجتمع يهودي، وتوجد أيضا كنيسة للمسيحيين في وادي مزاب. ويدرك جميع سكان وادي مزاب أنه لا يمكن البقاء على قيد الحياة في البيئة الصحراوية من دون القوة التي تكتسب من الوحدة”.
ويعد سيدي عيسى، واحدا من أبرز شيوخ الإباضية في الوادي، ويظهر في الصورة ضريحه الرائع في قصر مليكة.
وتمسك الهيئة الدينية (حلقة العزابة) بزمام الأمور في مزاب. وتتكون كل حلقة من رموز رئيسية في المجتمع، منهم إمام ومؤذن ومعلم من المدرسة القرآنية. وفي بني يزقن، المدينة الأكثر تشددا، تشرف الحلقة على مختلف الأمور الدينية والأخلاقية في المجتمع.
ويقول ميغنين: “أراد بعض التجار مؤخرا تحويل بعض المباني بالميدان الرئيسي (المبين في الصورة) إلى متاجر، ومنعتهم الهيئة من ذلك لأنها رأت أن الميدان هو مركز الترابط الاجتماعي. ولو كان هذا الميدان في أي مكان آخر في العالم، لكان امتلأ بمتاجر هدايا. لكن الميدان الرئيسي في وادي مزاب لا يزال هادئا، ويمكنك الجلوس فيه مع عائلتك والتعرف على جيرانك. فالتجمع ومقابلة الآخرين في الميدان من العادات الضرورية في الوادي، إلى درجة أن السكان درجوا على القول: ‘لا يمنع رجل من الذهاب إلى الميدان إلا المرض أو التعثر في سداد الديون’. ولهذا اتخذت الهيئة الدينية هذا القرار للحفاظ على قوة المجتمع. وهذا أهم من المال”.
في غرادية، أكبر مدن وادي مزاب (التي التقطت فيها الصورة) يسمح بمزاولة التجارة داخل ميدان السوق الرئيسي وفي محيطه، لكن يُمنع وضع اللافتات والإعلانات الحديثة حتى تحتفظ المدينة بمظهرها الذي كانت عليه في القرن الحادي عشر. وبموجب قرار محلي، يجوز للتجار في الشوارع الجانبية أن يتخصصوا في سلعة واحدة فقط، سواء كانت سجادا أو فواكه وخضروات أو ذهبا. ويقول لاجون: “لا يتنافس التجار المزابيون فيما بينهم، بل يستمتعون بصحبة بعضهم بعضا، لأنهم يعون تماما أن تعاونهم معا يسهم في توطيد روابط المجتمع”.
ويستهجن المزابيون في جميع أنحاء وادي مزاب، الإلحاح على المشتري لشراء السلعة أو التفاوض مع البائع على السعر. ويقول لاجون: “إن الإباضيين يؤمنون إيمانا راسخا بالمساواة والعدل، فالبائع يحترم المشتري لأنهم سواسية، ولهذا يتعامل معه بأمانة ويضع سعرا عادلا للسلعة. ولا تقتصر المساواة على التجارة فحسب، بل تتعداها إلى المناسبات العامة، حيث يجتمع أغنى سكان الوادي وأفقرهم، ويأكلون ويشربون معا، لأنهم متساوون”.
على الرغم من أنك قد ترى الآن بعض أبناء الجيل الأصغر سنا في مزاب يرتدون الزي الغربي، إلا أن الكثير من السكان لا يزالون يختارون اللباس التقليدي. فالنساء الأكثر تحفظا يرتدين الحايك الأبيض المصنوع من الصوف، عندما يخرجن من منازلهن، بينما يرتدي الصبيان والرجال الشاشية (أتشاتشيت) أو الطاقية الصوفية البيضاء، والسروال الفضفاض المزود بطيات يطلق عليه “سروال اللوبيا”، ويشبه السراويل التركية التقليدية.
وقال لي أحد مدرسي اللغة الإنجليزية بالوادي: “إن السروال المزابي عملي لأنه يحافظ على برودة الجسم ولا يقيد الحركة أثناء ممارسة الأنشطة البدنية. كما أني أفضله لأنه يمثل جزءا من هوية المزابيين الفريدة. فإذا ارتدى الجميع السراويل الجينز والقمصان الرياضية، سنشبه سائر الشعوب”.
يضم الوادي ما يتجاوز مئة ألف نخلة. وتخضع بساتين النخل، كحال المدن، لقواعد صارمة. وتراقب هيئة معنية بتقسيم المياه، استخدام إمدادات المياه التي تنتجها خزانات المياه الجوفية في الصحراء، ويعاقب كل من يأخذ أكثر من نصيبه المحدد والعادل من المياه.
ويقول أحد مزارعي النخيل بوادي مزاب: “لم تسقط قطرة مطر واحدة في مزاب في الفترة من عام 2008 إلى 2017، ولهذا ليس من المستغرب أن تعد المياه أثمن من الذهب. وتطبق قواعد تقسيم المياه بصرامة، وقد يعاقب مخالفيها بالطرد من المجتمع لارتكابه إثما شنيعا”.
وتحظر اللوائح والقواعد في الوادي قطع أي نخلة أو “شجرة مقدسة” كما يسميها المزابيون، ما دامت حية. ويقول المزارع: “إن قتل النخل في مزاب، كقتل الإنسان، يعد ذنبا لا يغتفر”.
يتبع المزارعون في مزاب نمطا قديما للزراعة والحصاد، يعتمد على التلقيح اليدوي في شهر أبريل/نيسان. إذ تُنقل حبوب اللقاح من أزهار الشجرة الذكرية إلى أزهار الشجرة الأنثى، ثم يردد المزارعون أدعية معينة لضمان وفرة المحاصيل.
ويختزن أول محصول من البلح الذي يظهر في مايو/أيار ويونيو/حزيران، لشهر رمضان. ويقول المزارع: “يقال إن النبي محمد كان يفطر على الرطب في شهر رمضان قبل الصلاة. ويحمل الإفطار على التمر أهمية دينية كبيرة لسكان وادي مزاب”.
وتستخدم الفضلات عادة لإطعام الحيوانات أو تحمص وتُطحن لتحضير نوع من القهوة منزوعة الكافيين المشهورة في وادي مزاب. ويقول المزارع: “صحيح أننا قد نشتري القهوة من متجر البقالة، لكننا أهل الصحراء، نبحث دائما عن طرق لمنع إهدار النعم”.
ظهرت في بني يزقن، حيث لا توجد فنادق أو مطاعم أو مقاه، منشآت سياحية بسيطة في بستان النخيل المجاور. ويقول صالح داوود، مدير جمعية للمبيت مع الأسر (التي تظهر في الصورة): “وادي مزاب ليس منتجعا سياحيا، بل هو مكان حقيقي يسكنه أناس حقيقيون. وتتيح تجربة المبيت مع إحدى الأسر للزائر التعرف على الوادي وأنماط العيش فيه كما لو كان واحدا من أهله. إذ يأكل طعاما منزليا، تعده صاحبة الدار من الكسكس ونشتري لحم الجمل من جزار محلي”.
ويوجد الآن نحو 30 منزلا يستضيف الزائرين في وادي مزاب، الذي لا يزال يخضع لقيود صارمة بشأن أعداد السياح. ويقول داوود: “يدرك السكان هنا الفارق بين السياحة الجماعية والسياحة المستدامة والواعية. فنحن نركز على السياحة المستدامة ولا نريد إطلاقا أن تتدفق على الوادي الحافلات السياحية ويتحول الوادي إلى غابة بشرية”.
تنص إحدى القواعد، بتأييد من هيئة السياحة في الوادي، على أن يلتزم جميع الزوار، بمن فيهم الجزائريون، بعدم دخول المدن الخمسة المحصنة إلا برفقة مرشد سياحي محلي. ويقول ميغنين: “نفعل ذلك من منطلق الواجب وليس الوظيفة، من أجل الحفاظ على المدن لأننا نعتز بنمط حياتنا”.
ويحظر التدخين في المزارات التاريخية منذ سنوات طويلة لأسباب دينية، ووضعت لافتات تسرد السلوكيات المحظورة، منها التقاط صور السيلفي، وارتداء الملابس غير المحتشمة، واستخدام الهواتف المحمولة. ويقول ميغنين: “نحن شعب ودود ونرحب بالزائرين، لكننا نطلب منهم أن يحترموا نمط حياة المزابيين، فهذا هو وطننا، وليس مجرد خلفية لصورة على موقع “إنستغرام”، ولا نريد أن يتحول الوادي إلى نوع من الملاهي الصحراوية”.