موقع المغرب العربي الإخباري :
بخبث وسوء طوية قسم إعصار دانيال درنة إلى غربية وشرقية كأنه يشمت في انقسام الفرقاء، الليبيين الذين فتحوا له بوابات البلد و تركوه يعيث فيها موتا وغرقا. لقد شجعه على ذلك انه لما اتى غاضبا عاصفا مزمجرا ، لم يجد دولة قوية موحدة تصده وتمنعه ،بل وجد الليبيين، وقد مهدوا له السبيل بتشرذمهم واقتتالهم فيما بينهم .
يعرف الليبيون دون شك أن الكوارث مصائب طبيعية ،لكنهم يعون الآن أن حجم خسائرهم من الأرواح والممتلكات هو نائبة أخرى مختلفة لم يكن للطبيعة اليد الأولى فيه .
أكثر من عقد من السنين تنازع فيه الليبيون من أجل لا شيء ،سنين من العماه المطلق كانت نكوصا بينا عن ما كان “يضمنه” لهم الديكتاتور. إمعان سافر في نهج الفوضى والأنانية جعل الليبيين يجلسون في النهاية فوق ركام بلد جميل وغني يندبون حظهم و يتحسرون على “اقترافهم” الثورة .
كانت درنة عزلاء دونما عدة حين باغتها دانيال، وانهمرت مياهه انهمارها الشديد. كانت المستشفيات معطلة ،والمستوصف الوحيد بالمدينة المتقمص زورا دور مؤسسة للعلاج ليس به إلا 7 أطباء و8 ممرضين، وكان الناس محصورين في بيوتهم بنصيحة غبية من مسؤوليهيم الذين سلموهم الى الجلاد دانيال. لا دفاعات، ولا خطة استراتيجية للطوارئ، ولا تواصل ولا هم يحزنون، فقط كان هناك مواطنون تركتهم نخبتهم السياسية والعسكرية لحالهم يواجهون يوم القيامة وحدهم .
حقيقة لم يتصور أحد أن تأخذ مخاطر الصراع على الحكم هذا الإخراج الرهيب. أقصى ما كان يتوجس منه بليبيا أن يستحيل الصدام السياسي إلى حرب أهلية مفتوحة، وإلى تفكك لأوصال البلاد، أو إلى انقطاع صبيب البترول وريعه، والغرق جراء ذلك في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. لم يفكر احد في ان أحد هذه المخاطر قد يكون اغتيال دانيال لليبيا وإغراقها في البحر. ترى بعد ما وقع ،هل يمكن ان نتساءل إن كانت تستطيع دولة فاشلة دونما استقرار سياسي اتقاء رزء بكل هذه الجسامة والفداحة أو على الأقل ان تترجى اللطف فيه؟
أول شرط لإدارة الأزمات هو القيادة الرشيدة التي تعني الحصافة و عدم تشتت مراكز اتخاذ القرار، وهذا لسوء الحظ ما تفتقده تماما الحالة الليبية.
لذلك عوض التركيز على انتزاع ليبيا من تبعات دانيال، يتم البحث عن من هو المخاطب في هذه الأزمة، فهل ستنسق جهود الإغاثة والإعمار حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا ؟، أم تتصدى لذلك حكومة برلمان طبرق والمشير حفتر المتواجدان على أرض الميدان؟.
فهل يا ترى، والوضع هكذا، قد صار دانيال نفسه من سيمنح الشرعية لأحد الجانبين؟
ورغم أن هذه الأسئلة المخجلة لا يستقيم طرحها في لحظات الأسى والحزن؟ لأن المفروض أننا أمام مرحلة وحدة والتحام إلا أنها تبقى الأسئلة الوجيهة التي يجب الانطلاق منها، والتي يتوجس من إجاباتها الليبيون.
المؤكد الآن أن تداعيات إعصار دانيال ستصير فاعلا أساسيا في المشهد اللليبي، وأنها ستمارس تأثيرها عليه على المدى الطويل جدا، بعد ان انضم بدوره للذئاب الإقليمية والدولية التي تجوس في الديار الليبية باحثة عن حصتها من الكعكعة، إعصار لم يتخذ حليفا الدبيبة ولا حفتر ولا بشاغا و …. ، وإنما مالأه تجاهل هؤلاء المتناحرين لضعف الحكامة الذي أودى بالمؤسسات الليبية وإطاح بقدرتها على التخطيط والاستباق، وتهالك البنية التحتية للمدن ،وانعدام صيانة المنشآت ، و كذلك إنكارهم تغير المناخ بليبيا، وعدم رؤيتهم لتطرف الظواهر الطبيعية فيها من قبيل السخونة، ونضوب الماء، والعواصف الرملية والتصحر.
لقد زأرت الطبيعة بليبيا غير ما مرة، وحذر الخبراء تباعا من الكارثة، لكن النخبة السياسية كانت تستغشي ثيابها ،وتصم آذانها ،وتعمى عن كل إنذار وعن كل شيء، إلا عن الكرسي الذي تضيع بسببه ليبيا التي تتأخر الدولة ذات الرأسين فيها عن القيام بالإصلاحات الحيوية ناسية السدود وصيانتها متعهدة عوضا عن ذلك الانسداد في شتى الآفاق سياسيا واقتصاديا وبيئيا واجتماعيا.
واضح أن ليبيا مقبلة في المستقبل القريب على واحد من طيف سيناريوهات ممكنة، وأن دانيال سيشكل الحدث القادح لما سيعتمل بهذا البلد “الشقي” من تطورات.
تدعى حب ليبيا منذ سقوطها عقب الربيع العربي كل الدول المتدخلة بها ،وما فشل الاتفاقات حولها الا دليل على كذب هذا الحب الذي جعل منها يتيمة في مأدبة اللئام. وللأسف، ففشلها في الاعتماد على نفسها، ولجوئها لطلب المساعدة يزيدان في فقدانها لقرارها السيادي، كما ان حالة الخراب التي تتطلب مجهودا خرافيا لإعمارها يسيل لعاب هذه الدول سيلانا ويغريها بالارتكاز داخلها الى ما شاء الله إن الشر المستطير القادم أن تغرق ليبيا في وحل إمبريالية المساعدات خصوصا في ظرف يعاد فيه تقسيم العالم بين الكبار.
بل إن خوفنا لشديد ان تكون احتمالات النجاة من هذا السيناريو ضعيفة جدا في ظل كل هذا الحطام والخراب، لقد زادت مياه الإعصار طين السياسة بلة بليبيا ،وستعقد مصير ها أكثر بأن تفاقم ارتهانها للأجنبي وحساباته.
لكن مع ذلك ،يمكن أيضا لهذه المياه ان تخلص ليبيا من أسباب تناحرها واختلافها ،ان تغسل كل مثالب هذه العشرية الفائتة ،و تسدي درسا لسياسييها ،فيقرروا أخيرا ان يرحموها منهم ، ويضعوا حدا لهشاشتها ولهوانها على الأغراب والأنواء .
ممكن جدا أن تتعظ هذه النخبة ،وتفهم من خلال أهوال إعصار القيامة دانيال أن الدنيا فانية، فتستوعب أنما المجد الوحيد المتبقي كي يسجله لهم التاريخ في هذا الوقت الميت من الصراع ، هو ان يحافظوا على ليبيا موحدة قوية متلاحمة قادرة على تقرير مصيرها بنفسها و حماية اراضيها بأيديها من تنمر الغزاة والطبيعة على حد السواء،
على الفرقاء أن ينصتوا لنبض الشعب الليبي الذي أبان لهم وللعالم بفزعته غير المسبوقة عن تلاحم وانصهار فريدين ، ويتجهوا بكل وطنية الى نقض الحكومتين معا وتشكيل حكومة جديدة تظلل كل الليبيين في هذا الظرف المحبط البالغ القسوة.
ان الهبة الليبية لمواجهة إعصار دانيال استفتاء شهد عليه المجتمع الدولي على تشبت ليبيا بوحدتها، فهل ترعوي هذه النخبة وتكون في مستوى المرحلة ؟ وهل يكف العالم عن التربص بليبيا وخيراتها؟ تلك هي المساعدة المطلوبة، وذلك حقا ما نأمله ….ان يكون الإعصار نجاة و خلاصا لا حتفا وهلاكا مبرما .
انسخ الرابط :
Copied