الشعب الفلسطيني لم يتخل عن أرضه ولم يبعها أبدا، هو مخطط بريطاني عبر العثمانيين أدى إلى احتلال اليهود للأراضي والسيطرة عليها، وكل ما يشاع عن أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم عار عن الصحة، علينا أن نقرأ التاريخ جيدا، ونعرف حقيقة الظروف الصعبة التي مرت على أهلنا في ذاك الوقت.
تملُّك الثري البريطاني يهودي الديانة السير موسى مونتيفيوري أول قطعة أرض يهودية في فلسطين، نتيجة تدخُّل بريطانيا لدى السلطات العثمانية، ليُصدر السلطان فرمانا سنة 1849 يُجيز لليهود شراء الأراضي في الديار المقدسة، ويقوم “مونتيفيوري” بتشييد أول مستعمرة يهودية على أرض تقع خارج سور البلدة القديمة بالقدس، التي لم تلبث أن اعتُرِف بها رسميا من السلطات العثمانية مع صدور قانون استملاك الأجانب عام 1869 لتُوضَع بها نواة أول حي يهودي في فلسطين.
في رحلة بسيطة إلى الماضي، تبدأ نهايتها في القرن التاسع عشر، وبنظرة خاطفة على أراضي فلسطين العثمانية، سنجد أن غالبيتها أراضٍ صحراوية تجاور أرضا سهلية عامرة بأشجار الزيتون والكروم وبيارات البرتقال وحقول الفلاحين البسطاء، تلك التي تحيط بقراهم مشاعا للجميع، الكل يمكنه العمل بها، والكل ينتفع بقِطعها على مر السنين.
هذا المشاع الذي شكَّل 70% من الأراضي الفلسطينية حتى عام الانتداب، كان يُوزَّع عن طريق قرعة بين السكّان القرويين في كل دورة كانت تدور الأرض بينهم، دون بيع أو شراء أو سندات للملكية، وهو ما لم يُرضِ الدولة العثمانية كثيرا، حيث كانت الدولة فيما قبل تمنح الأرض لأصحاب النفوذ والزعامات، ليُحيلوها بدورهم إلى طالبيها من الفلاحين مقابل رسوم وضرائب يدفعها الأخيرون لهم، حتى انقضى الإقطاع فانتقلت مهمة التوزيع إلى الملتزمين والمحصلين الضريبيين.
وبعد أن صدر الطابو، حُظِر على الملتزمين والمحصلين نهائيا منح أي سندات تمليك أو تصرُّف، واقتصر الأمر على مأموري المال الذين اعتُبِروا المخولين الرسميين بتفويض وإحالة الأراضي دون غيرهم، العجز الاقتصادي أمام رسوم الطابو ومستحقاته من الضرائب، وآخرها هو عدم الثقة في الدولة التي ألغت نظام التسجيل بنظارة الأوقاف.
أرغم الفلاحون على التملُّص بصورة جماعية وعنيدة من قانون الطابو، مما أدخلهم منزلقا خَطِرا تهدَّدت فيه حيازتهم للأراضي التي لم يعد مشاعها مُعترفا به أو يضمن لمستعملها حقه. كما لم يُشكِّل عناد الريف عائقا أمام التشريعات العثمانية، ونتيجة للمآزق الثلاثة، لم تتركَّز ملكية الأراضي الريفية إلا في أيدي قلة من الموسرين القادرين على القيام بأعباء الأرض الجديدة، وقد انحصر الأمر هنا خاصة بعد صدور قانون تملك الأجانب.
انقسمت العائلات العربية إلى نوعين، فكان النوع الأول من العائلات ذات الزعامة، التي اتخذت من المدن مقرا لممارسة نشاطاتها ونفوذها، أو تلك العائلات الريفية ذات النفوذ، التي حكمت الجبال وسفوح المنحنيات ونظمت سلطتها في إطار ما عُرِف بسلطة الشيوخ.
وقد استطاعت عائلات شامية ولبنانية أن تستحوذ على مساحات شاسعة من أراضي فلسطين، كعائلات “سرسق”، و”العمري الدمشقية”، و”القباني”، و”العكراوي”، وغيرهم، أما صغار الملاك من الفلاحين، فقد لعبت المُراباة دورا فاعلا في خسارتهم أرضهم، بعدما رهنوها إلى أثرياء المدن الكبار، الذين راحوا يغرون الفلاحين بتسهيلات مادية في الإقراض، خاصة في أوقات الضرائب، بصورة متراكمة عاما تلو الآخر.
ساهم هذا التفكُّك في تحوُّل اجتماعي -بدوره-، إذ لم يكن المشاع محصورا في كونه نظاما اقتصاديا لإدارة الأراضي، وإنما كان يمتد بدوره ليكون ملجأ للفلاح حينما يعجز عن سداد ضرائبه، فكان الحل بسيطا بالسعي إلى أرض أخرى لزراعتها أو استئجارها ودفع خراجها. بينما انقلب الوضع في ظل الطابو -رويدا رويدا- إلى نمط مغاير يصطدم فيه الفلاح بأراضٍ لن يتمكَّن من استغلالها دون الطابو الذي يفر منه في الأصل.
لكي تتحقق ملكية أرض فلسطين للشعب اليهودي فإنه لا بد من خطوتين جوهريتين: شراء هذه الأراضي من مالكيها، والاهتمام بأن يستوطن اليهود هذه الأراضي بالفعل لا أن يتركوها للعمالة العربية. لهذا الغرض تأسست المؤسسات اليهودية لتفعيل الشراء بكميات أكبر وإغراءات أفضل، وعلى رأسها “صندوق الائتمان اليهودي – يكت” و”الشركة البريطانية الفلسطينية – بنك إنك” و”الصندوق القومي اليهودي – كيرن كاييمت” و”صندوق تأسيس فلسطين – كيرن هيسود”.
مع هذا، ومع شدة إغراءات المؤسسات اليهودية للملاك من العرب أو حتى الأراضي المُستأجرة لأمد طويل من الحكومة العثمانية -وفق قانون الأجانب-، لم تتعد ملكية اليهود حتى إحلال الانتداب البريطاني للحكم العثماني عام 1914 أكثر من 245.581 دونما، بواقع 1% تقريبا، من مساحة فلسطين الكلية، وهو رقم لا يمكن تخيُّله بالمقارنة مع أملاك العرب من الأرض.
تأتي قوانين نزع الملكية مثالا دراماتيكيا وواقعيا على وعد “بلفور” بصورة قد تبدو ساخرة في كثير من الأحيان، إذ نص القانون الصادر في 1926 بحقبة اللورد “بلومر” -المندوب الثاني- على حقوق مطلقة للدولة في نزع ملكيات الأراضي سواء عن طريق التفاوض مع أصحابها، أو بقوة القانون، ما دام الأمر يخضع للمصطلح المطاطي المسمى بـ “المنفعة العامة”، وذلك لأجل عيون أصحاب المشاريع، إما بالشراء أو حق الانتفاع أو استملاك أي حق ارتفاق بها ضروري للمشروع.
فإذا عجز أصحاب المشروع في ذلك، يجوز لهم -حسب المادة الخامسة من القانون- أن يرفعوا إلى المندوب السامي لأجل موافقته إعلان أو إعلانات المفاوضة المشار إليها، وللمندوب السامي السلطة إما أن يمسك عن إبداء موافقته وإما أن يمنحها بعد إجراء التعديلات التي يستصوبها في إعلان أو إعلانات المفاوضة، وكل ذلك بالطبع -وللإنصاف- طبقا لـ “المنفعة العامة” التي لا تعلمها إلا حكومة الانتداب الموقرة.
أتى قانون استملاك الأراضي للغايات العامة عام 1943 تعبيرا مختصرا عن أسلوب الحكومة البريطانية خلال انتدابها ونيتها في تمرير ملكية الأراضي لليهود، الذي سيتضح فيما بعد النكبة، إذ أجاز هذا القانون للمندوب السامي أن يستملك أي أرض استملاكا مطلقا، أو أي حق من حقوق الارتفاق في تلك الأرض أو عليها، كما يُخوِّل له الحق في أمر الأشخاص الذين يدَّعون أي حق من الحقوق، أو منفعة في الأرض المراد استملاكها، بأن يرفعوا يدهم عنها.
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، تلك الفكرة الصهيونية الرائجة، التي روَّجت لها الحركة على يد أكبر قادتها كـ “إسرائيل زانجويل” و”ثيودور هيرتزل” وغيرهما، نتج عنها ما هو غني عن الذكر والتوضيح. لكن تبقى حقيقة بسيطة غائبة عن هذه الدعاية الرائجة وهي أن فلسطين لم تكن أرضا بلا شعب، هذا هو الأمر بكل بساطة؛ لأن قرابة مليون ونصف مليون إنسان كانوا يشغلون تلك الأرض التي اغتصبت إسرائيل المزعومة غالبيتها بحجج، من ضمنها أنها اشترت أرض الأجداد.
لم يكن من الصعب على مَن اغتصب كل هذا أن يسن القوانين المسرحية التي تُبرِّر له اقتناص أملاك الفلسطينيين المسلوبة فعلا، كقانون الغائب الذي سلب كل أرض غاب صاحبها أو سافر إلى خارج حدود الهدنة أو دول الحرب العربية السبعة، حتى الأوقاف الإسلامية سُلِبت بالقانون نفسه، ليتحوَّل نحو مليون مواطن بين ليلة وضحاها إلى لاجئين لا تفارقهم صفة الاغتراب، ولا يرحمهم مَن خذلهم بتهمة لا أصل لها، ربما تُريح الضمائر الخاملة عن أصحاب الحق الأصلي، ولكنها لن تمر بادعاءاتها على أعناق التاريخ الذي يعرف أن أهل فلسطين لم يبيعوا أرضهم ولم يستبدلوا المال بالتراب، وإنما خضَّبوه بكثير من الدماء.
وفي النهاية نجد أن المخطط الصهيوني دبر بأيادي وأموال بريطانية لبسط النفوذ على منطقة الشرق الأوسط من خلال فلسطين، الدولة الجريحة التي عانت لسنوات آلام الاستعمار والاحتلال، أما حان لهذه الأرض أن تتحرر من أيادي الصهاينة الإرهابيين، أما حان لهذا الشعب المظلوم أن يعود إلى أرضه.