تعرض مذكرات جزائرية “ذكريات الكفاح والآمال” لهنري علّاق فصولًا هامة من حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر.
تقع المذكرات في ما يزيد عن 400 صفحة، ويروي كاتبها قصصًا توثّق شيئًا مما حرصت السردية الفرنسية على إخفائه من تاريخها الاستعماري المشين للجزائر.
من هو هنري علّاق؟
كان هنري علّاق، الذي وُلد في لندن عام 1920 لأبوين يهوديين، صحافيًا وناشطًا حقوقيًا فرنسيًا يساريًا يحمل الجنسية الجزائرية. وقد اعتمد لقب علّاق، وهو لقب عائلة جزائرية مسلمة، خلال فترة نضاله، وبقي معه طوال حياته.
والرجل عُد أحد أبرز الوجوه الفرنسية التي تضامنت مع الجزائريين وثورتهم خلال حقبة الاستعمار الفرنسي. وعُرف بنشاطه الواسع لتوعية الرأي الفرنسي والعالمي بالقضية الجزائرية.
كما أعاد بعث صحيفة “الجمهورية الجزائرية”، التي حرصت على تحشيد الرأي العام ضد الممارسات الفرنسية.
وبينما طُرد وسُجن وعُذب وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات لإسكاته، ظل شوكة في حلق الاحتلال حتى اندحاره. وقد كافأه الجزائريون بمنحه الجنسية الجزائرية بعد التحرير.
مذكرات هنري علّاق
من جانبها، تعتبر مذكرات هنري علاق من أبرز السير التي يرجع إليها الباحثون لتوثيق فترة مهمة من حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر، التي سافر إليها عام 1939.
وتعكس هذه المذكرات حال الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية، وتسلّط الضوء على الفترة التي تُعرف اليوم بحكومة فيشي في فرنسا، التي كانت قريبة من التوجهات الألمانية بعد سقوط باريس.
ويعرض هنري في مذكراته لانقسام الآراء، الذي كان قد شهده المجتمع الجزائري حول ألمانيا النازية.
فبينما رأى البعض أن سيطرة ألمانيا ستكون من مصلحة الجزائريين، اعتبر آخرون أن الأجندة الألمانية لا تختلف عن الفرنسية ويجب محاربتها. وعلّاق حكى عن رأي آخر “كان يرى أن هذه الحرب ليست حربنا”.
وتكشف تلك الفترة التي تناولها علّاق في مذكراته، وعكس فيها آراء الشباب وعامة الناس، صورة المجتمع الجزائري بأنها كانت الباعث الجديد لروح الاستقلال وانبعاث الوطنية الجزائرية بعد خفوتها.
إلى ذلك، يلفت الباحث الفرنسي المختص بتاريخ الاستعمار الجزائري آلين ريسو، إلى أن “الجزائر كانت في الحرب العالمية الثانية تخضع لنظام فيشي، المتعاون مع النازية والمعادي للسامية”.
ويشير إلى أن “هنري علاق كان يهوديًا وحاول التنقل بسرية وعدم الظهور، إذ كانت معاداة السامية ممارسةً في الجزائر المستعمرة”.
ويقول إن هنري انضم في ما بعد إلى طلائع الحزب الشيوعي الجزائري وأصبح صحافيًا مشهورًا جدًا.
وفيما يوضح أن الرجل كان على تواصل وثيق مع الأوساط كافة، يؤكد أنه لم يكن طائفيًا، بل منفتحًا على كل التيارات الوطنية الجزائرية.
إلى ذلك، تصف المذكرات قمع السلطات الفرنسية للجزائريين بعد اندحار النازية، حيث يذكر هنري علّاق جوانب من مجازر مايو/ أيار 1945 الشهيرة، حين تم حصد أرواح آلاف الجزائريين العزّل.
تعيينه في الجريدة
يتوقف هنري علّاق في مذكراته عند صحيفة “الجمهورية الجزائرية، التي ترأسها في مطلع الخمسينيات، وهي الفترة التي شرع فيها بشكل جدي بالعمل التنظيمي السري مع الحزب الشيوعي الجزائري.
ويعتبر علّاق تجربته في تلك الجريدة من أهم إنجازاته النضالية، حيث سخّرها للحديث عن الجزائريين ومظلوميتهم، وفضح ممارسات فرنسا ووجهها الاستعماري.
ويورد عن الصحيفة بالحديث عن تعيينه فيها “أنها الجريدة الوحيدة التي يمكنها أن تتعرض يوميًا للحقيقة المرعبة، التي تختفي وراء التسمية الكاذبة للعمالات الفرنسية”.
ويضيف أنها “الجريدة الوحيدة التي نددت باستبعاد وتخلف البلد، والوحيدة أيضًا التي ساهمت بفعالية في جمع القوى الشعبية بغية التخلص من نظام غير متسامح يسد الطريق أمام أي تطور”.
ويلفت إلى أنه لم يتوقف إطلاقًا عن الكتابة منذ بدأ النضال، كاشفًا أنه قام بذلك في غالب الأحيان تحت اسم مستعار، هو “علّاق”، الذي تبناه منذ عهد السرية.
الثورة وموقف الشيوعيين
إلى ذلك، يتحدث هنري علّاق في مذكراته عن موقف الشيوعيين من الثورة الجزائرية، التي اندلعت في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954.
وكان هذا الموقف قد عُد جدليًا واستجلب نقدًا كبيرًا للحزب، حيث رأت بعض القوى الثورية أن الحزب الشيوعي الجزائري تخاذل في البداية عن دعم الثورة وشكك بنجاعتها.
كما اتهموا الحزب بأنه يتلقى أوامره من الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان ينظر للقضية الجزائرية على أنها قضية حقوق لا استقلال.
وبينما يفند علّاق في مذكراته هذا الموقف، يورد “على عكس الذين يحاولون تزييف التاريخ، لم يكن لدى الشيوعيين الجزائريين أو الفرنسيين أدنى تردّد في اتخاذ موقف حول الجوهر، بالرغم من أن الجذور والقوى الحقيقية في جبهة التحرير الوطني، التي أعلنت مسؤوليتها عن الأعمال التي تم القيام بها لا تزال مجهولة، لأن واجب المناهضين للاستعمار مهما كانت جذورهم هو مساندة الانتفاضة والالتحاق بها مهما كان ذلك ممكنًا، وذلك بدون إهمال العمل السياسي الشرعي”.
ويضيف: “إنها التوجهات التي اعتمدَتها قيادة الحزب الشيوعي الجزائري، والتي تم تبنيها من قبل رفاقي الشيوعيين في الجريدة وأنا شخصيًا، والتي أصبحت قضيتنا”.
ويتوقف الروائي الجزائري واسيني الأعرج عند انقسام النخبة الفرنسية إبان ثورة 1954 إلى قسمين. ويشرح أن قسمًا من هذه النخبة ذهب مباشرة لتبرير الاستعمار الفرنسي، بينما ناهضه القسم الآخر.
ويقدم في هذا الإطار الكاتب جان بول سارتر مثالًا، وكتابه “عارنا في الجزائر” الذي ينتقد فيه الاستعمار الفرنسي بقوة.
كما يتحدث عن نخبة اختارت أن تنتمي للثورة الجزائرية بعمق، ومن بينها علّاق، ومن عُرفوا بـ “حملة الحقائب”.
السجن والتعذيب وتهريب الكتابات
انخرط هنري علّاق في العمل السري بعدما أصبح النشاط الشرعي للحزب الشيوعي الجزائري، في الأشهر التي أعقبت الانتفاضة، صعبًا أكثر فأكثر. وقد تم توقيفه في 12 يونيو/ حزيران 1957، واقتيد إلى أحد مراكز الجنرال ماثيو للاستنطاق المشدد.
هناك، قُيد إلى لوحة للتعذيب وبقي مسجونًا شهورًا في حمام غير مكتمل، يستخدمه المظليون كسجن انفرادي.
وكتب هنري علاق عن التحقيقات التي أُجريت معه، ما يمكن تسميته بمذكرات خاصة بالسجن، كان قد نجح في تهريبها ونُشرت في كتاب خاص تحت اسم “الاستنطاق”.
وهذا الكتاب أحدث ما يشبه الزلزال في الرأي العام العالمي، بعدما كشف ممارسات المظليين الوحشية مع المعتقلين بغية استنطاقهم.
وعن كيفية تهريبه للنصوص، أشار هنري إلى أنه كان يهرب النصوص بطريقة مجهرية، لافتًا إلى أنها لم تكن تتعدى أربع صفحات من كراسة تلميذ.
ويضيف أنه كان يقوم بطيها وإعادة طيها حتى يمكن إدخالها في كعب أو نعل حذاء أو في طيات الملابس، حتى يمكن تهريبها لأحد المحامين الزائرين.
وأفاد بأن آخر الأوراق التي كتبها وصلت في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 1957 دون حادث يذكر إلى محفظة المحامي الذي ينقلها لباريس”، موضحًا أنه لم يكن يتصور أن النص سيطبع في شكل كتاب، ولم يكن يتوقع الأصداء الحقيقية للكتاب.. ويتوقف عند التأييد الذي حظي به.
أما المظليون، فقد قاموا بردة فعل تمثلت بحملة واسعة في السجون، شملت تفتيشها وتعنيف السجناء وترهيبهم. كما منعت السلطات الفرنسية الكتاب بعد منع صحيفة “الجمهورية الجزائرية”، وقامت بإغلاق مقرها بالشمع الأحمر.
المزيد عن هنري علّاق، بما في ذلك دخوله سجنًا فرنسيًا وهروبه منه، والدور الذي لعبه كتابه “القضية”.. في الحلقة المرفقة من مذكراته.
العربي