ليس سراً أن أكثر من يقف مع الرئيس التونسي في قراراته الأخيرة هي الإمارات ومصر. ومن الواضح أنه لم يغب عن بال الرئيس الجزائري، وهو يتحدث الأحد الماضي في حوار صحافي بث على التلفزيون الرسمي، تطرق في إحدى فقراته إلى الوضع التونسي، ما يعنيه ذلك، فباختيار دقيق للمفردات رد تبون على سؤال أحد محاوريه: «نحن لا نتدخل في تونس، ولا نقبل أن يتدخل، أو يضغط عليها أي كان، وهي قادرة على أن تحل مشاكلها بنفسها».
ومع أنه لم يذكر الإمارات ومصر بالاسم، فقد كان على ما يبدو يشير لهما بالغمز. غير أن الرئيس الجزائري أبقى على قدر من الغموض، حين اكتفى بحصر المشكل فقط في اختيار التونسيين لنظام سياسي وصفه بغير المناسب لدول العالم الثالث. ومن المؤكد أن تبون لن يفعلها، ولن يكشف التفاصيل، أو يفصح كما قال في حواره التلفزيوني عما قاله له قيس سعيد، لكن بعد أسبوعين من القرارات التي وصفت بـ»التاريخية والاستثنائية» وأقامت الدنيا ولم تقعدها، يسود نوع من الهدوء في تونس، ولا تشهد البلاد، كما توقع البعض حملات للتنكيل بالمعارضين، أو تعرف مظاهر فوضى أو تصفيات أو اعتقالات على الهوية، ولم يتم إلى الآن حظر أو منع حزب الإخوان، أو من يصر خصومه على وصفه كذلك.
ومن الواضح أن السيناريو الذي دفعت نحوه القاهرة وأبوظبي بقوة، وحاولتا فرضه، يواجه صعوبات، وربما يقف على أبواب انتكاسة، لكن مَن أكثر من الجارة الكبرى يعنيه بشكل مباشر ما يجري في تونس؟ عوامل كثيرة تجعل الجزائر ترى أن لا أحد أجدر منها بذلك، والشواهد على أن معظم التحولات والتغييرات السياسية التي حصلت في «الجارة الصغرى» بعد استقلال «الشقيقة الكبرى» تمت إما بعلم الأخيرة وإما بموافقتها، معروفة. ولأجل ذلك فإنه لم يكن من الوارد أن يغفل الرئيس قيس سعيد عن أن يضع في اعتباره مثل ذلك المعطى، وهو يقدم ليلة الخامس والعشرين من يوليو الماضي على إعلان قراراته الاستثنائية، لكن هل أشعر الجزائريين مسبقا بما ينوي فعله بالضبط؟ وهل أخبرهم تفاصيل المرحلة المقبلة في بلاده، أو عما صار يصفه كثيرون الآن بخريطة الطريق؟ أم أنه أبلغهم فقط ببعض التفاصيل، وحجب عنهم الجزء الأكبر من خططه ومشروعاته؟ لقد كان الرئيس الجزائري أول المتصلين به في أعقاب تلك القرارات، غير أنه وفي ظرف أسبوع واحد فقط، حلّ وزير خارجيته مرتين بتونس، كانت الأولى قبل زيارةٍ قادته إلى إثيوبيا والسودان ومصر، وجاءت الثانية بعد مغادرته القاهرة وفي طريق العودة للجزائر، غير أن كل ما ذكر حينها عن الزيارتين، هو أن رمطان لعمامرة سلم خلالهما رسالتين شفويتين من الرئيس عبد المجيد تبون لنظيره التونسي، وأن اللقاء الأخير كان «مناسبة لتجديد التأكيد على ما يجمع القيادتين في البلدين، من علاقات احترام وتقدير متبادلين، وما يحدوهما من عزم صادق وإرادة صادقة على مواصلة العمل معا لمزيد من ترسيخ روابط الأخوة التاريخية، وعلاقات التعاون والشراكة المتينة بين تونس والجزائر ولمضافرة الجهود الدؤوبة للاستجابة للتطلعات المشتركة للشعبين الشقيقين، نحو مزيد من التآزر والتضامن والتكامل» حسب ما ورد في نص بيان صادر عن الرئاسة التونسية.
بيد أن استقبال الرئيس التونسي للوزير الجزائري، بعد اختتام زيارة الأخير إلى القاهرة، ولقائه بعبد الفتاح السيسي، وصدور بيان مشترك بعد اجتماعهما، أكدا فيه على أنه «تم التوافق في هذا الصدد نحو الدعم الكامل للرئيس التونسي قيس سعيد، ولكل ما من شأنه صون الاستقرار في تونس، وإنفاذ إرادة واختيارات الشعب التونسي الشقيق، حفاظا على مقدراته وأمن بلاده» أعطى الانطباع بأن الجزائر في توافق تام مع القاهرة، ومن ورائها حليفها الإماراتي، على ملامح المرحلة المقبلة في تونس، في وقت خلّف فيه رد لعمامرة عن سؤال وجه له في مؤتمر صحافي مع نظيره المصري بخصوص تونس، من أن ما يحدث فيها «شأن داخلي ونحترم سيادتها ونتضامن معها» الاعتقاد لدى كثيرين أن ذلك قد يكون إشارة مبطنة إلى رفض الجزائر، وعدم قبولها بأي دور مصري أو إماراتي مقبل في الجارة تونس، وربما أضفى تعدد الاتصالات وتنوعها بين القيادة التونسية وعدد كبير من الدول داخل وخارج الإقليم، خلال الأيام القليلة التي تلت الخامس والعشرين من يوليو، نوعا من الغموض عن الوجهة الحقيقية التي ستأخذها الأحداث، ومن سيكون الطرف الإقليمي الذي سيجني مكاسب منها، ورغم ذلك فقد بقي الجزائريون واثقين من أنهم يمسكون بالطرف الأكبر من الخيط، وأنهم حتى وإن تركوا مساحة لبعض القوى والأطراف الإقليمية مثل مصر والإمارات، مكنتها من التقرب من الرئيس سعيد، وسمحت لها بالانخراط بشكل أكبر في الشأن التونسي، فإنهم على يقين تام من أنه لا يمكن الحل والربط في جارتهم، لا فقط إلا بعلم مسبق منهم، بل بشرط موافقتهم ومباركتهم لأي مخرج أو سيناريو، قد يطرح من الخارج. ولا شك في أن الاستقرار الذي تبحث عنه في الظاهر كل الأطراف الإقليمية يهم الجزائر بدرجة كبيرة، لكن السؤال الذي يمكن أن يشغل المسؤولين الجزائريين هو، ما الذي سيحصل بعد أن يتم تطبيق أو استنساخ السيناريو المصري في تونس؟ هل إن القبضة الحديدية للسلطة التونسية ستجعل الجزائر مطمئنة إلى أن ذلك سيكون مصدرا لاستقرارها؟ أم إنه سيفتح الباب على تحالفات جديدة قد تقدم عليها السلطات وتسمح للمصريين والإماراتيين بوضع موطئ قدم على مقربة من حدودهم؟
إن ما تدركه الجزائر، وبلا شك، هو أن الأفضلية التي تحوزها هي، أنها تملك علاقات وثيقة بكل الفرقاء السياسيين التونسيين من اليمين إلى اليسار. ففيما وجهت حركة النهضة مثلا في خضم الأزمة الأخيرة سهامها إلى الإمارات ومصر، واتهمتهما بالوقوف وراء ما اعتبرته انقلابا دستوريا في البلاد، فإنها لم تصدر أي اتهام مماثل للجارة الكبرى، بأنها ساندت الرئيس قيس سعيد في قراراته، ولعل ذلك ينبع من إدراكها أن إبقاء قنوات التواصل مع الجزائر بالذات، يمنحها فرصة إضافية للتوصل إلى تسوية ما مع الرئيس، بما أن الجزائريين يملكون علاقات وثيقة به. غير أن السؤال هنا أي دور يفكر الجزائريون في لعبه في الأزمة التي تمر بها جارتهم؟ وهل إنهم طلبوا فعلا من الرئيس سعيد أن يتفاوض مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي، كما نقل موقع «ميدل أيست أي» الجمعة الماضي عن مصدر رسمي جزائري رفيع لم يسمه؟ حتى إن كذّبوا الخبر، ووصفه مصدر رسمي في الخارجية الجزائرية بـ»المناورة الفاضحة» فإن ذلك لا يخفي هواجسهم وشعورهم بالقلق من أي توسع، أو تمدد محتمل للنفوذ الإماراتي المصري في جارتهم الشرقية. أما ما الذي سيفعلونه لوقف ذلك، ولاستعادة زمام المبادرة، في ما يمكن اعتباره حديقتهم الخلفية؟ فهذا ما لن نتأخر بالتأكيد عن اكتشافه في الأيام المقبلة.
كاتب وصحافي من تونس
القدس العربي