قررت السلطات التونسية رسميا مراجعة اتفاقية التبادل التجاري الحر، التي وقعتها مع تركيا منذ 16 عاما، وذلك بهدف الحد من عجز ميزانها التجاري مع هذا البلد بعد أن بلغ 2.5 مليار دينار (900 مليون دولار) عام 2021.
وأكدت وزارة التجارة التونسية أنها ستدخل في مفاوضات جديدة من الجانب التركي خلال الأسابيع القليلة المقبلة لتعديل هذه الاتفاقية وربما حتى إلغاءها.
وتسمح هذه الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ منذ 01 يوليو/ تموز 2015 إعفاء جميع المنتجات الصناعية تماما من الرسوم الجمركية، كما تقضي أيضا بإعفاء بعض المنتجات الزراعية من هذه المعاليم إلى حدود سقف معين، على غرار التمور المصدرة إلى حدود 5 آلاف طن.
ويرى بعض الخبراء أن هذه الاتفاقية مجحفة بالنسبة للجانب التونسي وغير متكافئة وتستوجب التعديل بهدف خفض عجز الميزان التجاري مع تركيا من جهة وإنقاذ بعض المنتجات المحلية التي تضررت بسبب مزاحمة المنتجات التركية واكتساحها السوق التونسية.
كبح عجز الميزان التجاري
وفي تصريح لـ “سبوتنيك”، قال الخبير الاقتصادي ووزير التجارة السابق محسن حسن، إن تونس تعيش في خضم أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة تجلت من خلال ارتفاع العجز في الميزان التجاري الذي وصل إلى حدود 11.2 في المائة من الناتج المحلي الداخلي وتراجع عائدات القطاع السياحي وانخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما تولدت عنه ضغوطات متواصلة على ميزان الدفوعات ولجوء مستمر إلى التداين الخارجي الذي تجاوز نسبة 100 مليار دينار.
وبين أن من بين الحلول المطروحة لتقليص هذا العجز هو ترشيد الواردات ودعم الصادرات، مضيفا أن ترشيد الواردات يستوجب مراجعة العديد من الاتفاقات المبرمة مع دول خارجية على غرار اتفاقية التبادل التجاري الحر مع تركيا ومع الاتحاد الأوروبي أو حتى اتفاقية أكادير التي تهم التبادل الحر مع البلدان العربية.
وقال إن العجز في الميزان التجاري جاء أساسا من بلدان مثل تركيا والصين ومن ارتفاع بعض واردات المواد الاستهلاكية بالإضافة إلى العجز الغذائي وعجز الطاقة”.
وعن علاقته باتفاقية التجارة مع تركيا، أوضح حسن، أن التعديل يهم مراجعة الفصل 17 الذي يتمثل في تحديد إمكانية اتخاذ بعض الإجراءات الحمائية لتقليص العجز التجاري في إطار ما تسمح به اتفاقية المنظمة الدولية للتجارة.
وبين حسن، أن هامش تحرك الدولة التونسية يتمثل في التحكم في واردات المواد الاستهلاكية وليس الأولوية أو الغذائية أو الطاقة وتقليصها من خلال ترفيع المعاليم الجمركية الموظفة على هذه المنتجات إلى حدود النسب المثبتة في المنظمة الدولية للتجارة.
ولفت إلى أن الإجراء الثاني الذي يمكن للجانب التونسي اتخاذه هو إخضاع توريد بعض المنتجات الاستهلاكية إلى كراسة شروط فنية وصحية، مؤكدا أن هذا الإجراء معمول به في كل دول العالم للتحكم في الواردات وخاصة الواردات الاستهلاكية.
ويرى الخبير الاقتصادي أن تعديل هذه الإجراءات لا يجب أن يقتصر على تركيا وإنما يجب أن ينسحب على بقية الدول مثل الصين والبلدان الأوروبية، قائلا: “تونس التي خطت نحو اقتصاد السوق والانفتاح يمكنها أن تتخذ الإجراءات التي تراها مناسبة لحماية اقتصادها خاصة في فترة الأزمات بالقدر الذي يسمح به القانون الدولي”.
اتفاقية مجحفة
من جانبه، يرى الدبلوماسي السابق عبد الله العبيدي في حديثه لـ “سبوتنيك” أن تونس أمضت العديد من الاتفاقيات التي تمنح امتيازات تفاضلية للبلدان الموقعة عليها دون أن تتمتع بمثيلها، ثم تفطنت لاحقا بحكم الأوضاع الاقتصادية والمالية أنها اتفاقيات مجحفة وتستوجب المراجعة.ولتبسيط المسألة قدم العبيدي مثالا في ذلك قائلا: “إذا ما افترضنا أن تونس وفرنسا وقعتا اتفاقية مشتركة تعطي بمقتضاها امتيازات في منح العمل والإقامة للتونسيين القادمين إلى فرنسا، وفي هذه الأثناء حصلت تطورات في القانون العام الفرنسي بشكل يوسع في نطاق هذه الامتيازات، فإن ذلك يستوجب ضرورة تعديل الاتفاقية”.
وبخصوص التبادل التجاري الحر مع تركيا، اعتبر العبيدي أن هذه الاتفاقية قامت على عدم التوازن في الامتيازات بين البلدين، حيث أن قيمة الواردات التركية على تونس تفوق الصادرات بكثير، وهو ما نجم عنه عجز في الميزان التجاري.
ولفت العبيدي إلى أن تركيا أغرقت الأسواق التونسية بمنتجاتها بشكل بصورة أثرت على الإنتاج المحلي وتسببت في كساد العديد من القطاعات نتيجة الإقبال المكثف على السلع التركية.
وأضاف أن تونس تستورد منتجات غير ضرورية من تركيا، مشيرا إلى أنها تمر بأزمة اقتصادية ومالية تستدعي اتباع سياسة التقشف.
وبين العبيدي أن كل الاتفاقات التي تنظمها منظمة التجارة الدولية تتضمن بندا يسمح لكلا الطرفين بمراجعة فصول الاتفاقية وتطويرها خاصة في زمن الأزمات بشكل لا يمس مصالح أحد الأطراف الموقعة عليها.
قرار سياسي
وقال وزير المالية السابق سليم بسباس لـ “سبوتنيك”، إن مراجعة اتفاقية التبادل التجاري الحر مع تركيا هو تطبيق لبند من بنودها، الذي يسمح لكلا البلدين في ظرف 5 سنوات بطلب المراجعة أو التوقيف الاستثنائي مراعاة للظروف الداخلية.
وأشار إلى أن تونس سبق وأن عدلت هذه الاتفاقية مرتين آخرهما سنة 2019 عندما قررت توقيف العمل بها قبل أن يتم التمديد في توقيتها.
وأضاف بسباس: “رغم أن تونس استعملت إمكانية المراجعة مرتين، إلا أن مستوى العجز التجاري بقي على حاله وانخفض بشكل طفيف”.
ويرى بسباس، أن تعليق الإعفاء من المعاليم الجمركية على السلع التركية مدة سنتين إضافيتين أو إلغاء العمل بها تماما لن يحل المشكلة، مشيرا إلى أن الحلول الأفضل هي مزيد التفاوض بشأن انتصاب المؤسسات التركية في البلاد، وتحويل تونس إلى قاعدة للتصدير.
ولا يستبعد بسباس أن يكون قرار تعديل الاتفاقية في هذا التوقيت بالذات قرارا سياسيا، قائلا: “بعض الأطراف أمعنت في شيطنة المسائل التي لها علاقة بتركيا وانخرطت في سياسة المحاور دون تحليل موضوعي ونسيت أن تواكب ديناميكية التحالفات التي تغيرت وفقا لأولويات الدول”.
وفي هذا الخصوص ذكر بسباس، التوافق التركي الإماراتي الأخير على إعادة تنشيط الحركة التجارية والاستثمارية بين البلدين، قائلا: “عقد الاتفاقيات الدولية أو تعديلها أو إلغائها يجب أن يستند على مبدأ المصلحة الوطنية وليس الاصطفاف السياسي”.
سبوتنيك