بلغت المعركة ضد الفساد أشدها في تونس مع إصدار الرئيس قيس سعيد قرارات تقضي بإنهاء مهام الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (هيئة مستقلة)، فيما قامت قوات الأمن بإخلاء مقر الهيئة والإشراف على حمايته، وذلك لتفادي إتلاف ملفات في غاية الخطورة مرتبطة بقضايا فساد.
وجاء في بيان للرئاسة التونسية أن سعيّد “أصدر أمرا رئاسيا يقضي بإنهاء مهام أنور بن حسن الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”، مضيفا أن “المكلف بالشؤون الإدارية والمالية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سيتولى مباشرة جميع أعمال التصرف التي يقتضيها السير العادي لمصالح الهيئة، وذلك بصفة وقتية”.
كما وضعت السلطات الأمنية الرئيس السابق لهيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب قيد الإقامة الجبرية الجمعة، وذلك بعد ساعات من إخلاء الشرطة مقر الهيئة.
وقال الطبيب في تدوينة على حسابه في فسيبوك “دورية أمنية ترابط أمام بيتي أعلمتني أنه صدر قرار بوضعي تحت الإقامة الجبرية (…) في خرق لحقي الذي يكفله القانون والدستور”.
وفي وقت سابق طوقت قوات الشرطة مقر الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد وأخلتها من الموظفين في محاولة على ما يبدو من السلطة التنفيذية التي يترأسها الرئيس سعيد لعدم إتلاف أي ملفات أو تسريب أي وثائق حساسة وفي غاية الأهمية تتعلق بقضايا فساد.
وأثارت قرارات سعيد جدلا في البلاد بين مرحب بتحركاته أعقاب ما عرف بحراك الخامس والعشرين من يوليو الماضي باعتبارها إجراءات متممة للمعركة ضد الفساد على جميع المستويات، وبين من ندد بقراراته الأخيرة خاصة في ما يتعلق بالهيئة.
وأبدت أوساط سياسية وحقوقية استغرابها من إقدام سعيد على هذه الخطوات دون توضيح مبررات ذلك للرأي العام. وتساءل هؤلاء حول ما إذا كان إخلاء مقر الهيئة من الموظفين مرده مخاوف من تسريب ملفات مهمة.
وأعربت منظمة أنا يقظ (فرع منظمة الشفافية الدولية في تونس) عن استغرابها من هذا القرار المفاجئ دون تقديم أي تفاصيل أو بيان بشأن أسبابه.
وشددت المنظمة على أهمية حماية الملفات المودعة لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لما تحتويه من معطيات حساسة ومعلومات شخصية (تصاريح بالممتلكات والمكاسب، شكاوى وتبليغات عن الفساد…) وأن كل محاولة للمسّ من هذه المعطيات تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.
وأكدت المنظمة على وجوب أخذ كل الاحتياطات اللازمة لحماية هوية المبلغين عن الفساد الذين قاموا بإيداع ملفات لدى مصالح الهيئة.
وعلى رغم إشادة طيف واسع من التونسيين بتحركات سعيد بخصوص قضايا الفساد التي تنخر البلاد، إلا أنها برأي آخرين ما زالت تفتقد إلى استراتيجية واضحة.
وأشار غازي الشواشي الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي في حديثه لـ”العرب” إلى “ضرورة معرفة أسباب ومبررات هذه الخطوة خاصة أن هناك ملفات تتعلق بتصريحات ممتلكات لتونسيين ومسؤولين في الدولة من ضمنهم رئيس الدولة، إضافة إلى ملفات المبلغين عن الفساد الذين يحظون بحماية قانونية، وملفاتهم محفوظة بطريقة سرية”.
وتابع “يجب التوضيح للرأي العام مبررات إخلاء مقر الهيئة وحملة الإعفاءات داخلها”. وبرأيه كان على سعيد التفكير في تعيين رئيس جديد على رأسها.
وفي تقديره يكمن الحل اليوم في خضوع الهيئة إلى رقابة القضاء ولو ظرفيا لحماية دورها في مكافحة الفساد والإثراء غير المشروع.
وفيما وصف الشواشي قرارات سعيد بالغامضة بشأن الهيئة، إلا أنه عزا ذلك إلى وجود تخوف من تسريب ملفات مهمة بهدف تحقيق مآرب.
ويعتقد متابعون أن سعيد استبق مناورات خصومه خاصة ممن تلاحقهم شبهات فساد بمحاولته حماية وتحصين الهيئة، وذلك تجنبا لخضوعها للابتزاز أو المساومة.
وتتولى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي أحدثت في نوفمبر عام 2011، اقتراح سياسات لمكافحة الفساد وإصدار مبادئ توجيهية عامة، كما تبدي رأيها في مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمكافحة الفساد. وتجمع الهيئة البيانات المتعلقة بالفساد وتسهل الاتصال بين الجهات الفاعلة وتنشر ثقافة مكافحة الفساد.
ولطالما أثارت الهيئة الجدل في الشارع التونسي وسط شكوك في استقلاليتها وخضوعها لأجندات الأحزاب الحاكمة، فيما يؤكد مراقبون ما تواجهه من تحديات بسبب الصراعات السياسية واستغلال الأحزاب ورقة الفساد في تصفية الحسابات.
وأبرز مصطفى عبدالكبير الناشط الحقوقي في حديثه لـ”العرب” أن “هيئة مكافحة الفساد هي هيئة دستورية تتمتع بالاستقلالية التامة عن القرار السياسي إضافة إلى كونها من أكثر الهيئات الدستورية حساسية وخطورة نظرا لاطلاعها الواسع على أسرار ومعطيات شخصية لعدد كبير من التونسيين”.
والأكثر من ذالك أنها تملك معطيات خاصة عن المبلغين عن الفساد والتي تصل إلى حد وضعهم في موضع التشفي أو الانتقام، كما أنها تضع يدها على معلومات وملفات حساسة خاصة برجال أعمال وسياسيين وكبار المسؤولين، وهو حسب اعتقاد عبدالكبير أهم سبب جعل وزير الداخلية المكلف يتحرك لحمايتها وحراستها وتأمينها.
ولفت الى أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كانت ولا تزال دائما محل تجاذب وصراع بين العديد من الأطراف واعتبارا لكون رئيس البلاد يريد مكافحة الفساد.
واستنتج أنه من الطبيعي أن يتحرك ويبسط عليها يده لأنها مصدر ومرجع لكل الأطراف المتداخلة سواء كانت قضائية أو أمنية من أجل متابعة وملاحقة الملفات والصفقات ومن يقف وراءها. وكان سعيد الذي فاز في انتخابات 2019 متعهدا بمكافحة الفساد، قد قال في وقت سابق هذا الشهر إنه سيلاحق كل من أجرم في حق الشعب التونسي أو سرق أمواله.
وأوقفت الشرطة الأسبوع الماضي مسؤولين في قطاع الفوسفات بشبهة الفساد في نقل واستخراج هذه المادة الحيوية.
صحيفة العرب