رغم ما دأبت السلطات الفرنسية على تكراره من نفي وإنكار لاستخدام جيشها قنابل النابالم ضد الثوار الجزائريين خلال حرب الاستقلال، فإن الشهادات تتواتر اليوم للتذكير بالحجم الهائل لذلك العنف الرهيب.
هذا ما أوضحته في مقال لها بموقع “أوريان 21” (21 Orient) الفرنسي المؤرخة رافائيل برانش المتخصصة في كشف قضايا العنف خلال الحقبة الاستعمارية وأستاذة التاريخ المعاصر في جامعة باريس نانتير.
وتنقل برانش -في بداية مقالها- ما وصفته بافتراء الوزير الفرنسي المكلف بشؤون الجزائر روبير لاكوست عام 1957 بأن “النابالم محظور بشكل صارم ولم يستخدم قط في أي عملية عسكرية في الجزائر”. وكذلك تأكيد وزارة الدفاع الفرنسية آنذاك أن “تعليمات صارمة من القيادة العسكرية الفرنسية العليا في الجزائر تحظر استخدام هذا المنتج”. وعلقت المؤرخة بأن السلطات الفرنسية دأبت على تكرار ذلك في ظل الجمهورية الخامسة.
وتضيف برانش أن فرنسا لا يمكنها الاعتراف باستخدام هذه المادة الهلامية التي تدخل في صناعة القنابل الحارقة، لأن هذا السلاح محظور بموجب الاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها باريس، كما أن استخدامه يتعارض مع ما تحاول فرنسا الترويج له من أن ما تقوم به إنما هو عمليات إنفاذ قانون بسيطة في الجزائر الفرنسية منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
وأبرزت الكاتبة أن ما تحاول باريس التكتم عليه كان جليا واضحا في الجبال الجزائرية، حيث يقاتل الجيش الفرنسي مقاتلي جيش التحرير الوطني الجزائري، وحيث يستهدفهم، خاصة في الغابات التي يجعلون منها مخابئ لهم، فيُسقط عليهم من الجو قنابل النابالم التي تتسبب في حريق سريع الانتشار، لا سيما في المناطق ذات الأشجار الكثيفة.
وأكدت شهادات فرنسية ما ندد به الثوار في وقت كانت الجزائر تغوص فيه أكثر وأكثر في أتون الحرب. وأوردت المؤرخة قول مدير صحيفة “لوموند” هوبير بوفي ميري عام 1959 أنه لم يعد لديه أدنى شك في أن باريس استخدمت هذه الأسلحة، وذلك إثر مقابلة له مع بول ديلوفرييه، الذي خلف روبرت لاكوست في منصب وزير الجزائر بالحكومة الفرنسية.
وكان عريف في الجيش الفرنسي أرسل رسالة إلى الصحيفة قبل فترة وجيزة من تلك المقابلة وصف فيها كيف قضوا على مجموعة من المسلحين الجزائريين، قائلا إنهم تمكنوا من حرقهم أحياء هم و10 مدنيين كانوا معهم، بينهم امرأتان وفتاة في العاشرة من عمرها.
وشددت المؤرخة على أن الطيارين يعرفون جيدًا ما يسقطونه، وكذلك الجنود على الأرض الذين يطلبون دعمهم، لافتة إلى أن الجيش الفرنسي كان يستخدم للحديث عن هذه الأسلحة العبارة المشفرة: “علب خاصة”.
شهادات المتضررين
وتنقل المؤرخة شهادات بعض من تضرروا من هذه الأسلحة، إذ يقول محمد قايد (أحد الثوار الذين استهدفهم قصف بالنابالم في إحدى المعارك) “قصفونا بالنابالم فكنا أمام معضلة حقيقية: ماذا نفعل بالجندي الذي يحترق أمامنا فإذا لمسناه نحترق مثله، فكنا نحثوا عليه من التراب أو نأخذ قطعة قماش ونغطيه رغم ما في ذلك من مجازفة لأن النيران يمكن أن تطول أي شخص يتدخل، وبسرعة فائقة”.
ويضيف محمد قايد وهو يصف المشهد “رأيت المصابين يحاولون الهرب، كانت رائحة كريهة تنتشر في المكان، كانوا يتدحرجون على الأرض، وكان بعض لحمهم يبقى ملتصقا بالحجارة، كانوا يصرخون، وما زلت أسمع من حين لآخر ذلك الصراخ”.
ووصفت المجاهدة مريم مختاري بدقة الرعب الذي كان يدب على الأرض عندما يقترب سلاح الجو، إذ كان الجميع يخشى النابالم الذي يعطي الحرب ألوانها الجهنمية، قائلة إن الطائرة التي تطلق هذه الأسلحة كانت بعيد ظهروها تجعل الأرض تكتسي بما يشبه حمم البراكين ويبدأ الحريق الانتشار في الغابة، فترى الدجاج يفر مع فراخه وكذلك الكلاب والحيوانات والمدنيون من نساء وأطفال؛ الكل يركض هربا من الحريق.
أما من يطولهم الحريق فإنهم يشوون ولا يبقى منهم إلا رواسب متفحمة، في حين يحاول من يستطيع ذلك وقف تمدد الحريق بالماء وبكل الوسائل المتاحة.
ويحاول ضابط فرنسي تبرير استخدام هذا النوع من الأسلحة بالقول إن المقاتلين الجزائريين كانوا يتمترسون في مواقع رائعة، ولم يكن بالإمكان طردهم إلا إذا نفدت ذخيرتهم، وكان القضاء على مقاتل واحد منهم يعني خسارة الفرنسيين 10 جنود في المقابل.
وهنا -كما يقول هذا الضابط- يكون من الأفضل أن تقوم القوات الجوية “بضرب المتمردين واستخدام النابالم في هذه المنطقة الصخرية حيث يمكن للمتمرد أن ينصب كمينًا خطيرا وفعالًا”.
ورغم فداحة استخدام هذه الأسلحة، فإن فرنسا -إدراكًا منها للعواقب السياسية والدبلوماسية للاعتراف باستخدامها- تصر على الاستمرار في إنكار ذلك.
وختمت المؤرخة بالقول “بعد عام 1962، ظلت الغابات المتفحمة والمتحجرة في سلاسل الجبال الجزائرية شاهدة على هذا العنف لسنوات، أما بالنسبة للجثث التي تحولت إلى كتل فحم بسبب هذه المواد الحارقة فما زالت صورها تطارد من رآها”.