في الأسبوع من الأول من شهر ديسمبر/كانون الأول عام 2013، وفي أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس، وبهدوء تام بخلاف حياة الرجل الصاخبة والدموية، توفي الجنرال الفرنسي المتقاعد بول أوسارس (1918-2013) عن عُمر يناهز الخامسة والتسعين. كان أوسارس المُصاب بالإعتام والعور في عينه اليسرى أحد ضباط العمليات الخاصة للمقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني لبلاده في الحرب العالمية الثانية، كما كان جنديا مُخلِصا للجنرال شارل ديغول، ووفيا لوطنه حتى إنه ترك تخصُّصه في العلوم اللغوية اللاتينية وقرَّر الانضمام إلى صفوف الجيش في العمليات الخاصة، حيث عمل في وظائف مختلفة في فيتنام ولاوس، قبل أن يُصبح مسؤولا عن العمليات الخاصة بما فيها التعذيب والقتل وجمع المعلومات في الجزائر إبان الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي فيما بين عامَيْ 1954-1962.
طوال 132 عاما هي عمر الاحتلال الفرنسي للجزائر، واجه الفرنسيون مقاومة لا هوادة فيها من أبناء الجزائر دفاعا عن وطنهم ومقدساتهم وحُرماتهم، وحتى تتمكَّن فرنسا من وأد كل المحاولات السلمية والعسكرية الموجَّهة ضدها، عملت على تنفيذ إستراتيجية عنيفة كان عنوانها شراء الذمم تارة، والحديد والدم تارات أخرى، ولم يكن إطلاق اسم “بلد المليون شهيد” على الجزائر من فراغ، فقد أهرقت الآلة الفرنسية الإجرامية دماء عشرات الآلاف من أبناء هذا البلد دون أن تشعر بذنب أو تأنيب ضمير.
وحتى بعد إعلان الجزائر استقلالها الذي نالته بعد تضحيات لا تُقدَّر بثمن، شرعت فرنسا تحمي جنرالاتها وجنودها وإدارييها ممن عملوا في الجزائر إبان الاحتلال، أولئك الذين أوغلوا في دماء الشعب الجزائري تحت دعاوى حماية الأمن القومي لبلادهم، لكن المذكرات الشخصية والتواريخ التي دوَّنها شهود العيان من أبناء الثورة الجزائرية والمؤرخين الجزائريين المعاصرين لتلك السنوات القاسية كانت شاهدة على الإجرام الذي مُورِس في حق وطنهم وأبناء شعبهم.
بيد أن الحقيقة يظل لها رونق آخر إذا خرجت من الجلاد، واعترف بها على الملأ في صفحات الجرائد بعد مرور أربعين سنة على خروجه مُنسحِبا من بلد الشهداء والأبطال، فقد فوجئ الرأي العام الفرنسي والجزائري بالجنرال المتقاعد بول أوسارس، وبعدما ظنَّ الناس أنه مات وقضى نحبه كما قضى مَن سبقوه من جنرالات فرنسا وجلاديها، فوجِئوا به يخرج في عدة مقابلات في جريدة “لوبوان” الفرنسية يذكر التفاصيل الدقيقة لبعض الجرائم الدموية التي ارتكبتها فرنسا إبان الثورة الفرنسية.
بل وراح أوسارس إلى أبعد من ذلك حين اعترف للمرة الأولى بقتل فرنسا لمشاهير الثورة الجزائرية، بل وقتله هو بيديه لمناضلَيْن وسياسيَّيْن مناوئين للاحتلال الفرنسي آنذاك، هما “محمد العربي بن مهيدي” و”علي بومنجل” بعدما رفضت فرنسا طوال عقود الاعتراف بهذه الحقيقة، وفبركت بدلا من ذلك رواية وهمية حول انتحارهما وغيرهما ممن قتلتهم عمدا مع سبق الإصرار والترصد، ثم أخفت جثثهم عن ذويهم، وطمست الحقيقة عن التاريخ والناس.
والحق أن تاريخ التعذيب والترويع الفرنسي في الجزائر لم يكن محصورا زمن الثورة الجزائرية المسلحة التي قادتها “جبهة التحرير الجزائرية” خلال السنوات الثمانية الأخيرة من عُمر الاحتلال الفرنسي، ولكنه قديم قدم الاحتلال نفسه. ففي 29 مايو/أيار 1950، وعلى صفحات جريدة “البصائر”، عدَّد الشيخ والمناضل العلامة محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965)، رئيس جمعية العلماء المسلمين، مظالم فرنسا في بلاده، في مقالة جعل عنوانها “حدِّثونا عن العدل فإننا نسيناه” قائلا: “والديمقراطية هي دعوى زمنكم، ولكنها باطلة في الجزائر، وحُرمات المنازل والأعراض من تبجُّحات زمنكم، ولكنها مهتوكة في الجزائر، وعصمة الأبدان من الضرب والتعذيب من أكاذيب زمنكم، ولكنَّ الجزائرَ أصبحت مدرسة عالية لتعليم النمط الرفيع من أنواع الضرب، وأساليب التعذيب، وأصبحت تجارِبُه الأولى في أبداننا، ولولا هدير البحار وصخب الساسة لسمعتم أنين المكلومين، ولامتزج في آذانكم حفيف السياط بالصراخ، وليوشكن إن تمادى زمنكم في التفنُّن، ولم تبادروا جرثومة الاستعمار بالاستئصال، أن تستمرئوا لذة نيرون باحتراق روما”(1).
لم يترك العذاب الأليم الذي تسقيه فرنسا لأبناء الجزائر للجراح مدة لاستعادة عافيتها، وإنما ألهبها بالسوط بعد السوط، والقتل بعد القتل، حتى قرَّر أبناء هذا البلد إعلان التعبئة العامة عازمين على طرد هذا المحتل، وإزاء هذه التطورات في الجزائر، قرَّرت الحكومة الفرنسية في باريس أن تتخذ سبيل الحزم، حتى قال وزير الداخلية الفرنسية -ورئيس فرنسا فيما بعد- فرانسوا ميتران: “أنا لا أقبل التفاوض مع أعداء الوطن، إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب”(2). ولهذا السبب أرسلت فرنسا مددا عسكريا واستخباراتيا، كما أرسلت فلذة أكبادها في الإجرام والقتل، الذين لقَّبهم أوسارس بـ”رجال الظل”، أولئك الذين يعلمون كيف تحارب فرنسا وكيف تنتقم من “الأعداء”.
شقَّ “أوسارس” طريقه إلى عالم العملاء السريين منذ الحرب العالمية الثانية حين قرَّر ترك مجاله متخصِّصا في اللغة اللاتينية والإغريقية من أجل الانضمام إلى المقاومة الفرنسية بزعامة “شارل ديغول” ضد ألمانيا، ليس هذا فقط، بل قرَّر أن يصبح “مجرما” لصالح بلاده، يقول: “لقد علَّموني كيف أفتح الأقفال المغلقة، وكيف أقتلُ دون أن أترك أثرا، وكيف أكذب، وكيف أصبحُ غير مبالٍ بمعاناتي الشخصية أو بمعاناة الآخرين، وعلَّموني كذلك كيف أنسى وكيف أُنسى، كان كل ذلك من أجل فرنسا”(3).
في أوائل عام 1955، وبعد أشهر من اندلاع الثورة الجزائرية، أُرسل “بول أوسارس” ضابط الخدمة السرية، وكان لا يزال في السادسة والثلاثين من عُمره، إلى منطقة “سكيكدة” الساحلية شرقي الجزائر، وسرعان ما انخرط أوسارس في عمليات “الاستجواب” و”الاستنطاق” التي كانت تستهدف المقبوض عليهم من أبناء المقاومة الجزائرية، يقول: “كان التعذيب بالكهرباء يتم عن طريق مولّدات كهربائية تُستعمل في الأرياف من أجل شحن أجهزة اللا سلكي… وكان التعذيب يتم عن طريق صعق الأذنين أو الخصيتين وبعدها يُطلق التيار بتركيز مختلف… وخوفا من هذه الوسائل -أو بفضلها- كان السجناء يشرعون في تقديم معلومات مفصَّلة -وحتى الأسماء- التي كانت تؤدي إلى إجراء توقيفات جديدة”(4).
كان القتل الفوري أمرا عاديا ضمن إجراءات الاستجواب والاستنطاق في كل المناطق التي عمل فيها “أوسارس”، وقد تسرَّبت هذه الآليات الدموية بين قادة المناطق الفرنسيين حتى أصبحت منهجا مُتَّبعا، يقول عن ذلك: “إن مهمتنا تفرض علينا الوصول إلى نتائج ربما يكون التعذيب هو الجسر الوحيد الذي يؤدي إليها. إنها حرب قذرة”(5).
ومع ترسُّخ المقاومة الجزائرية المنظَّمة التي كانت تقودها “جبهة التحرير الجزائرية” التي تمكَّنت بمرور الوقت من السيطرة على الأرياف، خلافا للمناطق الحضرية والمدن الكبيرة التي استطاع الفرنسيون السيطرة عليها والتمركز فيها بفضل قواتهم الثقيلة وسلاح الجو ومعاونيهم من الأوروبيين المسلحين أصحاب “الأقدام السوداء”، نشبت معارك عديدة ألحقت خلالها المقاومة خسائر بالقوات الفرنسية والمدنيين الأوروبيين الذين وطَّنتهم فرنسا على حساب الجزائريين. وقد أصابت هذه الخسائر “أوسارس” بالحنق، وجعلته يتجاهل شيئا اسمه “الرحمة” على حد وصفه.
في إحدى العمليات التي قامت بها جبهة التحرير في منطقة تُسمى “الهالية” على بُعد 22 كم شرق مدينة سكيكدة، في صيف عام 1955، كانت الحصيلة 35 قتيلا أوروبيا، وفي المقابل، أخذ الفرنسيون 60 أسيرا من الجزائريين قرَّر “أوسارس” أن ينزل فيهم عقوبة الإعدام في وقتها، قائلا: “كان يجب قتلهم، هذا كل شيء، ولقد قمتُ أنا بفعل ذلك”(6).
ومنذ ذلك الحين أصبح القتل هو الوسيلة الأسهل والأسرع للتخلُّص ممن يُقبَض عليهم من المنضمين إلى جبهة التحرير الجزائرية أو المتعاطفين معهم، وبعد التعذيب الدموي كان أوسارس يُعيِّن -كما يقول- “فِرَقا مُتكوِّنة من ضباط صف، أصدرتُ لهم الأوامر للإجهاز على السجناء. لقد كنتُ أحرصُ على ألا أُعيِّن أبدا الرجال أنفسهم لأداء هذا النوع من المهام… إلا إذا كانوا مُدرَّبين عندهم سنة واحدة من الخدمة على الأقل، بمعنى أنهم لم يكن لديهم تأنيب ضمير”(7).
كان بول أوسارس يجمع جثث قتلاه بعد عمليات الإعدام الجماعية لمجاهدي الجزائر ويحفر لهم مقابر جماعية، ومن “رحمته واحترامه” للتقاليد الإسلامية في الدفن كان يحفر “قبورا باتجاه مكة”، يقول: “حفرت حفرة تبلغ مئة متر طولا ومترين عرضا ومترا واحدا عمقا، ودفنَّا الجثث… وكانت السلطات في الجزائر العاصمة تُزوِّدنا بأوكسيد الكالسيوم (الجير) من أجل إخفاء الجثث (أي تسريع تحلُّلها)”(8).
في منتصف عام 1956، رُقي بول أوسارس إلى رتبة رائد، وأصبح قائدا لإحدى الفِرَق في الجزائر العاصمة التي كانت تشهد حينذاك اطرادا في العمليات العسكرية المسلحة التي كانت تقودها جبهة التحرير الجزائرية ضد الوجود الفرنسي العسكري والمدني على السواء، وكان توسُّع هذه العمليات وكثرتها وتنوعها يوقع عشرات القتلى من الفرنسيين، الأمر الذي جعل أوسارس يعترف أن ما كان يقع في سكيكدة لا يعتبر شيئا مقارنة بالعاصمة وعملياتها الهجومية.
كان حي قصبة الجزائر مركز العمليات الهجومية تجاه الفرنسيين وقواتهم العسكرية والمدينة العسكرية التي كانت تُسمى “الأقدام السوداء”، ولهذا السبب استخدم أوسارس كل أدوات التعذيب الممكنة ضد المقاومين المعتقلين، إلى درجة أنه خصَّص فيلا نائية في العاصمة الجزائر لهذه المهمة التي كانت تبدأ مع قدوم الليل، وبعد الاستجواب كان رجاله “يخرجون من محيط العاصمة بقرابة عشرين كيلومترا في جبال بعيدة حيث يُقضَى على المتهمين دفعة واحدة بطلقات الرشاش ثم يُدفَنون”(9).
كانت معظم عمليات جبهة التحرير في العاصمة الجزائر تقع تحت إشراف “محمد العربي بن مهيدي”، وكان شابا في الرابعة والثلاثين على قدر كبير من الثقافة الدينية والتعليمية، مُطَّلعا على الفنون والآداب، ومؤمنا في الوقت نفسه بضرورة المقاومة المسلحة في عموم الجزائر لطرد الاحتلال الفرنسي، ولهذا السبب نشطت أجهزة المخابرات والمعلومات الفرنسية للبحث عنه طوال عام 1956، وحتى نهاية شهر فبراير/شباط 1957، حيث استطاعوا القبض عليه بواسطة كتيبة الجنرال مارسيل بيجار، القائد الفرنسي المسؤول عن تصفية الثورة الجزائرية المسلحة آنذاك. وبعد أيام طوال من أساليب الاستجواب المختلفة، بين الترغيب والترهيب والتعذيب الشديد، لم يُدلِ العربي بن مهيدي بأي معلومة مهمّة تخصّ زملاءه، ولم يُبدِ أي خضوع لمطالب الاحتلال(10)، كما يؤكد أوسارس في مذكراته.
كانت مهمة أوسارس التي جاءت من السلطات العليا في فرنسا آنذاك هي القضاء السريع على قادة المقاومة وجبهة التحرير الجزائرية، وبما أن محمد العربي بن مهيدي كان على رأس هؤلاء المطلوبين، فإن المهمة كانت هي قتله، ولهذا السبب يقول أوسارس: “توصَّلنا إلى نتيجة مفادها أن محاكمة بن مهيدي عن طريق القضاء أمر غير مرغوب فيه؛ لأنه كان سيُحدث صدى دوليا… لم يخن بن مهيدي رفقاءه، ولكننا عثرنا على معلومات ثمينة في الوثائق التي كانت بحوزته”.
اصطحب الرائد بول أوسارس المناضلَ محمد العربي بن مهيدي إلى مزرعة نائية في أطراف العاصمة الجزائر، وفي أحد مبانيها المهجورة “أُدخل بن مهيدي إلى الغرفة، قيَّدناه وشنقناه بطريقة تفتح المجال لاحتمال حدوث عملية انتحار، وعندما تأكَّدتُ من موته أنزلته ونقلته إلى المستشفى”(11).
ومثلما أشرف أوسارس على إعدام العربي بن مهيدي بالشنق، فإنه أشرف على قتل المحامي الشهير علي بومنجل، أحد مشاهير المحامين الجزائريين المناصرين لجبهة التحرير بالمال والقلم وفي ساحات المحاكم، وقد لفَّق له الفرنسيون تهمة الاشتراك في قتل أسرة فرنسية في جنوب العاصمة الجزائر حين سلَّم -كما زعموا- مسدسه الخاص لمنفذ العملية، وقد اعتقلوه في إحدى البنايات المرتفعة حيث ألقوه من الدور السادس ليلقى حتفه صريعا، قبل أن يزعموا كذبا أنه انتحر(12)!
في 5 يوليو/تموز 1962، أعلنت الجزائر استقلالها بعد 132 عاما من النضال الشعبي والفكري والحركي والمسلح، لقد بذلت الجزائر في هذا التاريخ الطويل فلذة أكبادها أمام آلة متوحشة لم ترحم، خرج بول أوسارس كما خرج الفرنسيون بأيادٍ ملطخة بالدماء، وقد ظلَّ في مهامه العسكرية داخل وخارج فرنسا حتى أُحيل إلى التقاعد، ولكنه بعد أربعين عاما في عام 2000 قرَّر أن يبوح بأسراره للصحافة الفرنسية، وهي التي جُمعت في مذكراته التي جعل عنوانها “شهادتي حول التعذيب”، وفي العام التالي 2001 قال في مقابلة مع وكالة الأسوشيتد برس: “إنني أُعرب عن أسفي، لكن لا يمكنني التعبير عن الندم… أعتقد أنني قمتُ بواجبي الصعب كجندي متورط في مهمة قاسية”(13). وفي ديسمبر/كانون الأول 2013، رحل أوسارس مُحمَّلا بجرائمه عن عمر ناهز 95 عاما.
وكالات