مُنيت ثورة الياسمين التونسية بعد ما يناهز 11 سنة بنهايتين خائبتين مؤسفتين. الأولى تجلّت بحسم ارتداد 25 يوليو الصراع حول الحكم لصالحه، والثانية تجلّت بأن أصبح مستقبل تونس واضحاً ومتمثلاً، إما في الفوضى على طريق لبنان أو الارتهان إلى صندوق النقد الدولي، بما يعني إدارة الحكم المحلي بإملاءات خارجية. وفي الحالين، ودّعت تونس طريق الديمقراطية والحرية إلى سنوات طويلة أخرى قادمة.
كان ارتداد 25 يوليو ضربة قاصمة لمسار الديمقراطية الناشئة، إذ داس بأذرعه الصلبة كلّ العقبات التّي تهيّأ للبعض بأنها ستتصدّى له، وتُسقطه. بدوره، الحراك السياسي المعارض لهذا المسار، والمتعارض في ما بينه، انتهى إلى أضحوكة في عالم الأحزاب، منقسماً إلى قسمين، قسم في السجون أو مطارد من أجل تدوينة، فيما تحوّل القسم الآخر إلى نشطاء حقوقيين، أضحى أقصى أحلامهم فكّ أسر زملائهم، من غياهب سجون “القرجاني” وامتداداتها.
أما اتحاد الشغل التونسي، “الماكينة” كما سماها أحد قادته السابقين، فقد تبيّن أنها ماكينة قديمة صدئة، غارقة في شبهات فساد لا حدود لها، وانقسامات داخلية لا ترميم لها إلا بانهيار أقطاب 25 يوليو، وهو ما لن يحدث الآن. هذا الاتحاد الذي لا تظهر له قوة إلا أمام الضعفاء، مثل حزب النهضة وشركائه في الحكم طول حوالي عشر سنوات، يبدو وكأنه لم يعد موجوداً، حتى أنّ أمينه العام الذي خرج يوماً مهدّدا، أصبح الآن حملاً وديعاً، وأصبح نادر الظهور، حتى لا يتوّرط بكلماته البطولية، إن استثار أعوانه حماسته. وبانهيار العقبتين السياسية والاجتماعية، لم يعد في مواجهه “ماكينة السلطة” إلا شبح الانهيار الاقتصادي، الذي يضرب يومياً على رأس الشعب بندرة الموارد الغذائية وغلائها، وفساد أخلاق الناس مما هم فيه من إحساس بعدم الأمان.
وبعد أن التهم ارتداد 25 يوليو كلّ معارضيه، وتحوّلت أزمة الصراع على الحكم إلى مسألة حقوقية بحتة وضيقة، انتهى الرئيس قيس سعيد إلى مفترق طريقين، ثالثهما لن يقبل به مهما حدث، وهو لم شمل التونسيين، والعودة إلى الوحدة الوطنية، بناء على دستور 2014. وإن أخفق الرئيس في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، حتى يضمن على الأقل أجور العمال والغذاء بالحد الأدنى، فستكون تونس سائرة حتماً إلى الحالة اللبنانية، وستصبح الفوضى والاحترار الداخلي هو الوضع القائم، وهذا هو الطريق الأول، وخاصة أنّ الرئيس قيس سعيّد يرفض حتى الآن التوقيع على القرض، لما فيه من إجحاف بحق الشعب التونسي. وأما الطريق الثاني، فهو الارتهان إلى صندوق النقد الدولي، والذي هو بمثابة ارتهان البلد للقرارات الخارجية، وأول مطلب فيها رفع الدعم عن الناس، وهو ما سيفاقم التوتر داخل أفراد الشعب إن حصل. وفي كلّ هذه الحالات، ستصبح الأولوية للمواطن الحصول على أجره والبحث عن اللقمة، وأما الديمقراطية والحرية، فلن يلتفت إليهما إلا القليل.
إنها نهاية دراماتيكية مأساوية لثورة أدهشت العالم لحظة اندلاعها، كما عادت وأدهشت العالم بانطفائها السريع والمعيب، والذي تسبّب فيه سياسيون فاشلون، لم يعانقوا الديمقراطية والحرية يوما حتى في أحلامهم، وسياسيون جبناء لم يدافعوا عن المشهد برمته حينما كانوا في سدّة الحكم.
هذا النفق المظلم الذي دخلته تونس، بهذا الشكل المأساوي، المعبّر عن صراع أغبياء على الحكم، لن يكون له حدّ إلا بعد عشريتين قادمتين أو ثلاث، مثلما كانت دورات الحكم في تونس.
العربي الجديد