واجه التونسيّون الجيش الفرنسي في معركة الجلاء بمحافظة بنزرت شمال تونس في أحداث دموية اندلعت يوم 19 يوليو/تموز 1961، وتواصلت إلى يوم 22 من الشهر نفسه، تاريخ إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 164 القاضي بوقف إطلاق النار.
وتلت هذه المعركة جولة من المفاوضات السياسية انتهت بخروج الجيش الفرنسي نهائيا يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 1963 من بنزرت، التي كانت آخر معاقل المستعمر.
أسباب معركة الجلاء ببنزرت
لم يكن التنازل عن مدينة بنزرت أمرا يسيرا على الفرنسيين، الذين اعتبروها طيلة الحقبة الاستعمارية مدينة بالغة الأهمية في إستراتيجياتهم الحربية، نظرا لخصوصياتها الطبيعية التي أهلتها لإيواء أهم الثكنات العسكرية الفرنسية.
وإضافة إلى المضيق الذي تشكله بنزرت مع جزيرة صقلية، والذي يعد ممرا إجباريا بين شرق المتوسط وغربه، فإن بحيرتها البالغ قطرها 12 كلم تتيح لها استقبال مختلف القطع البحرية، وتحيط بهذه البحيرة سهول مناسبة لحفر الأحواض ولمد المطارات وإنشاء المخابئ والمخازن تحت الأرض.
وقّع رئيس الحكومة التونسية آنذاك الطاهر بن عمّار والجنرال بينو يوم 20 مارس/آذار 1956 بروتوكول استقلال تونس، واحتفظت فرنسا من حكومة غاي موليه (1956-1957) حتى حكومة ميشال دوبريه (1959-1962) بالعديد من الامتيازات.
وكانت هذه الامتيازات اقتصادية عن طريق مواصلة المستعمرين تسيير المزارع الشاسعة، وسياسية بحصر مجال الممارسة السياسية للتونسيين على الشأن الداخلي فقط، وامتيازات أمنية خاصة باستمرار تمركز الجيش الفرنسي في القواعد العسكرية التي أنشأها في مختلف مدن محافظة بنزرت.
على الصعيد الداخلي، مهّدت اتفاقية الاستقلال لبروز شروخ عميقة في المشهد السياسي التونسي والرأي العام الشعبي، بين شق مؤيّد لخطة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، التي اعتبرها كافية لتحقيق بناء الدولة ومنطلقا لتحريرها في مراحل لاحقة، وجبهة رافضة لهذا “الاستقلال المنقوص”، قادها الزعيم الراحل صالح بن يوسف، فكانت أرضية التصادم بين التونسيين والجيش الفرنسي ممهدة منذ البداية.
في الثامن من فبراير/شباط 1958، قصفت طائرات حربية فرنسية منطقة ساقية سيدي يوسف على الحدود التونسية الجزائرية، التابعة لمحافظة الكاف شمال غربي البلاد، تحت ذريعة “حق المطاردة” للثوار الجزائريين المقاومين للاستعمار الفرنسي.
أودى هذا الهجوم بحياة 68 شخصا بين تونسيين وجزائريين وأسقط 87 جريحا، حيث استهدف القصف الفرنسي سوقا أسبوعية في البلدة، وإثر ذلك رفعت تونس شكوى إلى الأمم المتحدة حظيت فيها بتأييد واشنطن.
عقب الهجوم الفرنسي، قرّرت الحكومة التونسية يوم 17 يوليو/تموز 1958 بدء العمل على إجلاء بقايا الجيش الفرنسي عن قاعدة بنزرت العسكرية، اعتمادا على الطرق السياسية والدبلوماسية.
ويوم 29 مارس/آذار 1960، أعلنت فرنسا نيتها الجلاء عن الثكنات في مدينة بنزرت قبل 31 أكتوبر/تشرين الأول من السنة نفسها، ودراسة إمكانية تحويل الأنشطة الصناعية بسيدي عبد الله من الإنتاج الحربي إلى الإنتاج المدني، ووضعها في خدمة الاقتصاد التونسي.
في هذه الظروف التي اتسمت بالانفراج في العلاقات بين البلدين، عقدت قمة “رامبويي” في 27 فبراير/شباط 1961 بين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ونظيره الفرنسي شارل ديغول، ولكنها انتهت بتغير الموقف الفرنسي ورفضه الانسحاب من القاعدة العسكرية ببنزرت.
مع هذا التغير في الموقف الفرنسي، أدركت الحكومة التونسية أن المساعي السياسية والدبلوماسية لم تعد كافية لإقناع الجانب الفرنسي بالانسحاب الكلّي، خاصة أنه جابهها بالتجاهل وإطلاق أشغال توسعة حدود ومهبط الطائرات في مطار القاعدة الجوية بسيدي أحمد يوم 30 يونيو/حزيران 1961.
تصدت قوات الحرس الوطني التونسي لأشغال توسيع القاعدة الجوية بسيدي أحمد ببنزرت عن طريق إعادة الأسلاك والحواجز المعدنية التي وضعها الفرنسيون إلى حدودها السابقة، مما دفع بفرنسا إلى التعبير عن انزعاجها الشديد من الخطوة التي أقدمت عليها القوات التونسية، وأبلغت موقفها للوزير الأول التونسي الباهي الأدغم ووزير خارجيته الصادق المقدم.
بداية الحرب
في الرابع من يوليو/تموز 1961، اجتمع الديوان السياسي للحزب الدستوري التونسي برئاسة الحبيب بورقيبة وأعلن فشل المفاوضات مع الجانب الفرنسي بشأن إجلاء قواته من قاعدة بنزرت العسكرية، ودعا بورقيبة إلى ضرورة المقاومة والتصدي للمستعمر لاستعادة بنزرت وتحريرها كليا من الفرنسيين.
بدأت الاجتماعات الداعية إلى التعبئة العامة في كامل تراب الجمهورية التونسية في الخامس من يوليو/تموز 1961، وتوجّه التونسيون من محافظات البلاد كافة نحو مدينة بنزرت، وانطلقت عمليات حفر الخنادق في محيط القاعدة الجوية سيدي أحمد وفي المواقع الحسّاسة المحيطة بها.
في السادس من يوليو/تموز 1961، وجّهت الحكومة التونسية إلى الجنرال ديغول رسالة تضمّنت مجدّدا المطالبة بالجلاء. وبداية من السابع من يوليو/تموز 1961، بدأت تظهر أولى وحدات الجيش التونسي في مدينة بنزرت والمدن المحيطة بها، وتم تعزيز المنشآت الصحية بالعاملين، وتوفير كميات من الأدوية وإعلان حالة التأهب في كل المؤسسات الصحية، تحسبا لأي تطور ميداني.
جاء الردّ الفرنسي على رسالة الحكومة التونسية يوم 13 يوليو/تموز 1961 بالرفض على أساس أن “المفاوضات لا يمكن أن تتم في جوّ مشحون بالتوتّر والمظاهرات”.
وأمام هذا الرفض، أعلن بورقيبة في خطاب ألقاه يوم 14 يوليو/تموز 1961 أمام نحو 100 ألف شخص أنّه “يجب أن يعلم الجميع في تونس، وفي فرنسا وفي أي مكان آخر، أن هذه المعركة جدية”.
أهم المعارك والمحطات
قرّرت الحكومة التونسية إصدار الأمر للقوات المسلحة بإطلاق النار على أي طائرة فرنسية تخترق الأجواء التونسية، وتم فعلا يوم 19 يوليو/تموز 1961 إطلاق النار على سرب من الطائرات الفرنسية التي كانت تقوم بعمليات استطلاع فوق المواقع والمخيمات التونسية.
ردّت الطائرات الفرنسية بقصف المواقع التونسية، التي بدورها قصفت منشآت سيدي أحمد والخروبة، وتواصلت الاشتباكات مساء في ميناء سيدي عبد الله وفي مدينة منزل بورقيبة.
يوم 20 يوليو/تموز 1961، هاجم التونسيون مجدّدا قاعدة سيدي أحمد، مما أدى إلى خروج القوّات الفرنسية من القاعدة بهدف ردع وتدمير المقاومة ثم المرور إلى احتلال المدينة.
في منطقة المصيدة، تعرّض مئات المتطوعين لنيران المدفعية الفرنسية، كما دارت معارك طاحنة في محطّة القطارات بسيدي أحمد، أما في مصنع الإسمنت الذي نصب فيه التونسيون مدافع عيار 105، فقد تعرّضت القوات التونسية لقصف جوّي مكثّف انطلق من القاعدة الجويّة بالخروبة.
رغم أنها ألحقت بالقوات الفرنسية خسائر مهمة، فقد اضطرت القوات التونسية إلى التراجع أمام كثافة النيران.
ويعد يوم 20 يوليو/تموز 1961 يوما داميا استشهد فيه العشرات وحرمت المدينة من الماء والكهرباء. وإثر هذه المواجهة، قطعت تونس علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا.
يوم 21 يوليو/تموز 1961، اقتحمت القوات الفرنسية مدينة بنزرت بعد أن دمرت المواقع التونسية خارجها، مستخدمة المظليين الذين حاولوا استعادة السيطرة على ثكنات المدينة واحتلالها بالكامل.
ورغم عدم إقحام الطيران في مهاجمة بنزرت، فإن الأميرال موريس أمّان (Maurice Amman) قام بتركيز حوالي 3600 جندي فرنسي في كل مداخلها، وتمكن المظليون من السيطرة على جزء من المدينة، واعتصم التونسيون بالمواقع الحيوية بالمدينة العتيقة وفوق السطوح واندلعت حرب شوارع ضارية.
تواصلت المعارك طيلة الليلة الفاصلة بين 20 و21 يوليو/تموز 1961 لتسفر صباحا عن عشرات الجثث المتناثرة في الشوارع لمدنيين وأفراد من قوات الجيش وقوات الشرطة في تونس.
الخسائر البشرية
ذهب بعض المؤرخين -على غرار المؤرخة الفرنسية صوفي بسيس- إلى تقدير الخسائر البشرية التونسية بأكثر من ألفي شهيد، وذلك وفق التقديرات التي اعتبروها الأكثر اتزانا، في حين تذكر وزارة الدفاع التونسية في موقعها الخاص بالتراث والتاريخ العسكري التونسي الأرقام التالية.
من الجانب التونسي استشهد 639 شخصا يتوزعون كالآتي :
- 364 من أفراد الجيش
- 45 عنصرا من الحرس الوطني (الشرطة)
- 230 مدنيا
- بلغ عدد الجرحى التونسيين نحو ألف.
ومن الجانب الفرنسي قتل 27 عسكريا.
النتائج السياسية
يوم 22 يوليو/تموز 1961، أصدر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة قرارا يقضي بوقف إطلاق النار في مدينة بنزرت بين الجانبين التونسي والفرنسي.
يوم 25 يوليو/تموز 1961، وصل إلى مدينة بنزرت الأمين العام للأمم المتحدة، داغ هامرشولد، بناء على دعوة عاجلة من الحبيب بورقيبة للاطلاع على الوضع الذي آلت إليه المدينة.
يوم 21 أغسطس/ آب 1961، تم عقد اجتماع بالأمم المتحدة للنظر في قضية بنزرت، انتهى بقرارات لفائدة تونس.
يوم 27 أغسطس/ آب 1961، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية المطلقة على ضرورة فتح التفاوض بين تونس وفرنسا من أجل تحقيق الجلاء عن بنزرت.
يوم 18 سبتمبر/أيلول 1961، توصّل الطرفان التونسي والفرنسي إلى اتفاق ينصّ على سحب القوات الفرنسية كافة من بنزرت.
وفي الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول 1961، تمّ الإعلان عن جدول زمني لجلاء الجيش الفرنسي نهائيا عن التراب التونسي وخروجه من بنزرت.
وفي 15 أكتوبر/تشرين الأول 1963، غادر آخر جندي فرنسي التراب التونسي من ميناء بنزرت، معلنا نهاية حقبة استعمارية امتدّت من 1881 إلى 1963.