بعد عقود قليلة من هذا التاريخ، كانت فرنسا، وقد رفضت الإيفاء بديونها، تضرب حصارا على الجزائر طيلة 3 سنوات قبل احتلالها، إثر توقيع الداي حسين وثيقة الاستسلام في 5 يوليو 1830.
ولم يكن حلم فرنسا، آنذاك، يتوقف على السيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية بالضفة الجنوبية للمتوسط واحتكار صيد المرجان الجزائري والإتجار به، أو حتى مجرد تحويل الجزائر لـ“حديقة خلفية“ تملأ مخازنها قمحا وجرارها زيتا، بل كان حلمها في تلك الحقبة الاستعمارية الجديدة توطين فائض سكانها وتأمين إقامة مؤبدة لهم في ما وراء البحار، أي أن تكون الجزائر ”أمريكا جديدة“.
نحن في حاجة إلى جحافل دهماء من المُعمرين الفرنسيين والأوروبيين، ولكي تجلبوهم عليكم أن تعطوهم أراضي خصبة لا يطير غرابها حتى يصبحوا أصحابها وأربابها، ويصير أربابها الأولون نسيا منسيا.. تلك كانت أحد تعليمات الجنرال بيجو لحكومة بلاده بعد سنوات قليلة من غزو البلد الذي أنقذها من الجوع.
بين 1830 سنة احتلال الجزائر، وسنة 1962 تاريخ استرجاع سيادتها، اُهْرقت دماء كثيرة واستبيحت أعراض وانتُزعت أراض وأُبيدت قرى وقبائل، وطبقت فرنسا سياسة ”الأرض المحروقة“ والاستراتيجية الممنهجة لطمس هوية الشعب الجزائري، وسام الجنود والضباط الفرنسيون الجزائريين ألوانا من صنوف التعذيب والتنكيل والتقتيل وتجربة أشكالها الجديدة عليهم، بما فيها تعريضهم كفئران تجارب لآثار التفجيرات النووية جنوب البلاد..
كانت ملاحم الشعب الجزائري في الدفاع عن أرضه واستبساله في الذود عن كرامته موضوع سرديات عديدة وكتابات تاريخية موثقة لم تزل تصدر تباعا بعد 60 عاما من الاستقلال..
كما احتفت الكتب المدرسية بسير الأبطال باتت تُروى جيلا بعد جيل.. فقط سردية الفرنسيين من النخب المثقفة ومن الفرنسيين الذين انحازوا لعدالة القضية الجزائرية ودافعوا عنها إلى درجة التضحية بالحياة، كما هو شأن الصحفي الشيوعي موريس أودان، لم يُسلط عليها ما يكفي من الأضواء بما يليق بالدور الذي لعبه هؤلاء في إدانة حكومات بلادهم المتعاقبة من أجل الجرائم التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري، وفي دعمهم ماديا ومعنويا لثورة جبهة التحرير.
الكاتب والباحث الفرنسي من أصل هندي تير تانكرشاندا بحث في سيرة بعض من رأى فيهم أيقونات الثورة الجزائرية من أحرار فرنسا، ممن اعتبروا أنفسهم ممثلين لروح فرنسا الحقيقية، فرنسا الحرية والمساواة والأخوة.
بدأت جبهة المثقفين والمناضلين الفرنسيين الممانِعة بالتشكل إثر أحداث مايو 1945 بمدينة سطيف التي قُتل فيها حوالي 42 ألف جزائري..
كانت ذكرى البربرية النازية التي اجتاحت فرنسا، في ما اجتاحت، ما زالت حية في الأذهان، لذلك لم يكن من باب المصادفة، كما يوضح الكاتب ذو الأصول الهندية، أن أبرز ما كُتب عن التعذيب الوحشي بإغراق السجناء في المياه المكهربة والتفنن في أشكاله المستنبطة، وعن صراخهم الذي يشق صمت الليل الطويل، وعن أغاني الأمل المنبعثة من الأجساد المتهالكة، قد نُشر بدار ”منشورات منتصف الليل“ اديسيون دي مينوي، التي بعثها جيروم ليندون أثناء الحرب العالمية الثانية..
وقد مكّن ليندون أصوات فرنسا الحرة من المؤرخين والصحافيين والكتّاب ومن المناضلين الجزائريين من أن تصدح بالحقيقة وأن تحرك الضمائر وتحشد التأييد لصالح القضية الجزائرية، خاصة مع انطلاق جبهة التحرير في مقاومتها المسلحة المنظمة، وهكذا نشر هنري الاغ مدير صحيفة ”الجزائر الجمهورية“ الشيوعية شهادة قاسية وحادة عن جرائم التعذيب التي طالته، بعضٌ منها في سجون الاحتلال الفرنسي بعنوان ”المسألة“، وهو الكتاب الذي جلب فضيحة التعذيب للساحة الفرنسية ونبّه الرأي العام الفرنسي لأكاذيب جيش الاحتلال..
ونشر أيضا المؤرخ المعروف بيار فيدال ناكيه كتابه ”قضية موريس أودان“ أستاذ الرياضيات الشيوعي بالجامعة الجزائرية الذي اغتالته آلة يد الغدر الفرنسية عام 1958، عشرات الكتب الأخرى التي نُشرت بـ“منشورات منتصف الليل“ وغيرها من دور النشر الأخرى التي آمن أصحابها وكتّابها أن ”انتصار جبهة التحرير الوطنية سيكون انتصارا لليسار“، كما جاء على لسان سارتر..
إلا أن جبهة المثقفين الفرنسيين المناوئين للحرب اتسعت لغير اليسار من المسيحيين، ومن اليمينيين سياسيا، وهكذا تم تجاوز تلك المواجهة المانوية التقليدية بين اليمين واليسار التي كانت تحكم وبشدة المشهد الثقافي الفرنسي آنذاك.
قضية الجزائر العادلة والتعبير عن الضمير الفرنسي وحدا الشقين، وظل الخلاف شخصيا أكثر منه إيديولوجيا كما يلاحظ تير تانكارشاندا، فقد احتدم الخلاف بين سارتر وألبير كامو الذي رفض توقيع رسالة بادر بها سارتر وأندريه مالرو وروجي مارتان دو جار، تطالب رئيس الجمهورية إدانة التعذيب الذي يُسلط على أبناء الشعب الجزائري.
ولكن صاحب ”الغريب“ القادم من الجزائر المستعمرة، حيث كانت والدته لا تزال تعيش، وحيث قضى شطرا من عمره، كان يؤمن بـ“جزائر فقط للجميع“، ولكن في حضن فرنسا، ولم يغفر له سارتر ازدواجية موقفه ولا قوله ”بين العدل ووالدتي أنا اختار أمي“..
مات كامو عام 1960 في حادث سيارة مأساوي، ربما أدرك قبله أن رياح التاريخ قد جعلته غريبا ضمن كوكبة المثقفين الفرنسيين الكبار.
اتضحت أكثر مماهاة فرنسا مع ألمانيا النازية وتاريخها البربري عندما وضع فرانسوا ميتران، وزير العدل في ذلك التاريخ، قانون ”العدالة العسكرية ”عام 1956، على جميع الرؤوس أن تسقط إذا ما تمرد أصحابها على فكرة أن ”الجزائر فرنسية“.
وكذا توالى سقوط رؤوس المناضلين الجزائريين ومناصري القضية من الفرنسيين، وكان على رأس هؤلاء الشاب الفرنسي فرنان أفتون ذو الميول الشيوعية الذي وضع قنبلة لم تنفجر بمصنع للغاز، وكان الصوت المرجح لإعدامه هو صوت فرانسوا ميتران، ذلك أن قانون ”العدالة العسكرية“ لا يقر بإمكانية العفو أو تخفيف العقاب بل يتجه إلى الإعدام الفوري والقسري دون رفّة جفن.
عندها تحركت الصحافة الفرنسية وسرى في أروقتها شعور بالخجل، فكتب كلود بوردييه على أعمدة فرانس أوبزرفاتور مقالا بعنوان: ”جستابو الجزائر“ .
وعن المهمات القذرة للجنود الفرنسيين في الجزائر، كتب الأديب الكبير فرانسوا مورياك في صحيفة ”إكسبريس“ عن نفس الروح النازية التي غشت فرنسا.
ولم تكن ردود فعل السلطات الفرنسية تجاه حتى التظاهرات السلمية التي قامت بها الجالية الجزائرية في فرنسا بعيدة عن هذه الروح وهي تطلق الرصاص الحي على المتظاهرين بشوارع باريس يوم 17 أكتوبر 1961 وترمي بالعشرات منهم في نهر السين.. عن هذه المجزرة ألّف المؤرخ جان لوك اينودي كتاب ”معركة 17 أكتوبر 1961 بباريس“، ووضع المؤرخ أيضا بيار فيدال ناكييه كتابه ”17 أكتوبر 1961 اليوم الذي لم يهز باريس“ .
لم تهتز باريس، ولكن ضمير النخبة الفرنسية كان قد اهتز حتى قبل هذه الحادثة المأساوية بسنوات وحرك بدوره الضمير العالمي.
ومن منا لم يطلع على بيان 121 مثقفا الذي نشرته مجلة ”الأزمنة الحديثة“ التي أسسها جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار عام 1945، ولكن المجلة صودرت واعتبر البيان تحريضا للجنود الفرنسيين على العصيان، ولكن البيان نُشر في مجلة ”الحقيقة – الحرية“ برعاية الكاتب موريس بلانشو، وقد حمل البيان توقيع العديد من الكتاب والفلاسفة والفنانين والمخرجين والممثلين، مثل ريمون ارون وسارتر وسيمون دي بوفوار وأندريه بروتون وبيارفيدال ناكييه ومارجريت دوراسو فرانسوا مورياك والمخرج آلان رونيه والممثل فرانسوا تروفو وغيرهم..
حمل هذا البيان عنوان ”الحق في العصيان“، عصيان الجنود الفرنسيين رفع السلاح في وجوه أبناء الشعب الجزائري، عصيان الفرنسيين الذين أدانوا هذه الحرب، فتم إعدامهم أو إلقاؤهم في السجون وتعنيفهم وفصلهم عن مواقع عملهم ومصادرة صحفهم ومجلاتهم، عصيانٌ أعاد لهؤلاء شرفهم وكرّس مفهومهم للحقيقة والعدالة مهما كانت السياقات التي يتم فيها انتهاك مثل هذه القيم، عصيانٌ مهّد طريق حرية الجزائر التي ساهم في نيلها رجال ونساء ساهموا في دعم جبهة التحرير الجزائرية ماديا ومعنويا..
إنهم ”حاملو الحقائب“ الذين قادوا شبكة جونسون السرية لنقل السلاح والأموال لمناضلي الجبهة، مجموعة من رجال الكنيسة الكاثوليكية خاصة وكتّابها وصحافييها ومن كتّاب وصحافيي اليسار ومن النقابيين ومن رجال المال والأعمال الذين مثلوا ضمير فرنسا الحي.
إنه تاريخ لا يمكن أن يُنسى، تاريخ التضامن والإخاء الإنساني، ولكن ذاكرة الجزائر لم تتعافَ وجراحها لم تلتئم حتى بعد 60 عاما من الاستقلال.. وكيف لها ذلك وصوت الجنرال ديمونتانياك ما زال يتردّد في الأذهان: ”كنّا نقتل لمجرد الترفيه والتسلية، وكنّا نقطع الرؤوس لطرد الخواطر الحزينة“.
لم يفعل الساسة الفرنسيون من ديغول إلى ماكرون شيئا من أجل تضميد جراح الذاكرة الجريحة، ولا للاعتذار عن حرب قذرة مشينة كانت تُزهق فيها الأرواح بدم بارد تزجية للوقت.
أستاذة فلسفة وكاتبة تونسية: خيرة الشيباني
إرم نيوز