ركز إعلان الجزائر المنبثق عن مؤتمر لمّ الشمل من أجل تحقيق الوحدة الفلسطينية، على مسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وأغلبية بنود الاتفاق تصبُّ في تفعيل الآليات المؤدية إلى ذلك.
أولا: الوطن المعنوي (المنظمة)
ركّز الإعلان ضرورة الوحدة على مستوى منظمة التحرير باعتبارها الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني. وآلية تحقيق ذلك هي:
انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج، بنظام التمثيل النسبي الكامل وفق الصيغة المتفق عليها والقوانين المعتمدة بمشاركة جميع القوى الفلسطينية، ما يعني الاتِّجاه نحو إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية. واعتبارها البيت الفلسطيني الذي تدار فيه النقاشات وتتخذ فيه القرارات السياسية.
وهنا وجب التذكيرُ بأنَّ الاحتلال الإسرائيلي اعترف بالمنظمة ولم يعترف بالدولة الفلسطينية في اتفاق أوسلو 1993، لأن الدولة في فهمه تخضع للتفاوض وليس للقانون الدولي، ويخضع التفاوض لتوازنات القوة ما يجعلها العنصر الأساسي في الإخلال بالجغرافيا الفلسطينية لصالح الاحتلال.
نتمنى ان يجري تدارك هذا الوضع مستقبلا، بجعل الاعتراف بالدولة الفلسطينية أولوية القيادة الفلسطينية. باعتبار الدولة هي الوطن المنشود وليست سلطة الحكم الذاتي التي شكلت الوطن المقصود في الذهنية الصهيونية.
والواقع أن المنظمة تعد ملاذا آمنا للسلطة والمقاومة في مسألة التمثيل، لقد حاولت السلطة تهميش المنظمة ونقل صلاحية التمثيل الدبلوماسي إلى وزارة خارجية السلطة، لكنها صُدمت بوصول حركة حماس للسلطة ووزراة الخارجية فيها في انتخابات 2006، وسرعان ما لجأت السلطة الفلسطينية إلى الاحتماء بالمنظمة وشرعيتها، وبالنسبة لحماس فإن وصولها إلى السلطة لم يمنحها حق تمثيل كل الشعب الفلسطيني، فالانتخابات كانت مجرد تمثيل لسكان الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة وليس لكل الشعب الفلسطيني المنتشر في الداخل والخارج الفلسطيني.
وعليه، فإن إصلاح قيادي للمجلس الوطني الفلسطيني للمنظمة هو الملاذ الآمن للسلطة والمقاومة الفلسطينية لحل مشكل التمثيل. ولعل أحد أهم الأسباب التي عطَّلت عملية إصلاح منظمة التحرير كانت تتعلق بمحاولة قيادة المنظمة احتكار عملية التمثيل.
واعتقد أن النقاش الداخلي الفلسطيني سيظلُّ قائما حول محتوى الوطن المعنوي.
وعلى المستوى الإيديولوجي هناك صراع بين الأسلمة والعلمنة، وتوقيع حماس على إعلان الجزائر يشير إلى استعدادها للتنازل لأجل الوحدة الوطنية، لأنها لم تكن مستعدة -حسب ميثاقها- لاستبدال الفكرة الإسلامية بالفكرة العلمانية، فالإسلام بالنسبة إليها هو المصدر الأساسي لشرعيتها ومن خلاله تستحضر تعاطف الشعوب الإسلامية، ولذلك فإن توقيعها “إعلان الجزائر” يؤكد استعدادها للتنازل لصالح الوحدة الوطنية.
ومن جهتها، فإن فتح بتوقيعها “إعلان الجزائر” تؤكد استعدادها للتخلي عن احتكار قيادة المنظمة لتمثيل الشعب الفلسطيني واحتكار القرار الفلسطيني. وبالتالي استعدادها للتنازل لصالح الوحدة الوطنية.
المسألة الثانية في النقاش حول إصلاح المنظمة يتعلق بهدف المنظمة نفسها، فقد شكلت المنظمة تنظيما ثوريا اتخذ من الكفاح المسلح أداة للتحرير، لكن سرعان ما تبنّت التسوية السلمية أداةً لتحقيق الأهداف الوطنية، اليوم وبعد مرور قرابة ثلاثين سنة على تجربة أوسلو 1993 لم تتحقق الدولة المنشودة وظل الحكمُ الذاتي المقصود في ذهنية الاحتلال هو الوطن المتاح الوحيد أمام الفلسطينيين. ولذلك فإن عمليتي المراجعة والتقييم أصبحتا ضروريتين أمام قيادة المنظمة، وهو ما يجعلها تقترب من بقية فصائل المقاومة. وهذا ما يفتح الباب مستقبلا للنقاش حول دستور المنظمة والبنود التي تم التخلي عنها ضمن اتِّفاق أوسلو.
المسألة الثالثة تتعلَّق بتعريف الاحتلال نفسه؛ فقيادةُ منظمة التحرير ذهبت إلى اعتبار الاحتلال شريكا في عملية السلام، بينما اعتقدت فصائل المقاومة أن الاحتلال يظل دوما قوة احتلال، وهي الصفة التي تمنح الشرعية لمقاومته.
المسألة الخلافية الأخرى تتعلق بقضية الاعتراف، فقيادة المنظمة اعترفت بإسرائيل مقابل اعتراف هذه الأخيرة بالمنظمة وليس بالدولة الفلسطينية، باعتبار الدولة موضوع تفاوض لكن التفاوض لم يؤد للدولة الفلسطينية المنشودة وإنما لسلطة الحكم الذاتي المقصودة. والوقع هنا أن (إسرائيل) أيضا لا تعترف بنفسها بينما تدعو الآخرين للاعتراف بها. فأين هي حدود (إسرائيل) المطلوب الاعتراف بها؟ هل هي حدود 1948، أم حدود 67، أم حدود التوسع الحالي؟
مسألة أخرى تعقِّد الوضع الفلسطيني حول مفهوم الوطن: هل هو (فلسطين التاريخية)؟ أم هو الوطن المتاح (الحكم الذاتي)؟ أم هو الوطن المعنوي (المنظمة)؟ أم هو الوطن القانوني (الشرعية الدولية) والقرار 242 ما يعني الدفاع عن 22% من الأراضي الفلسطينية فقط، أي الضفة والقدس وغزة؟
كل هذه المسائل ستظل موضع نقاش من الصعب حسمها في اللحظة لأنها تحتاج إلى مراجعات عميقة من الجميع، وفي هذا الإطار يجري الحديثُ عن تنازل فتح عن احتكار الوطن المعنوي (المنظمة) والتوجُّه نحو القبول بإصلاحها، وتنازل المقاومة ولو مؤقتا عن خطاب (فلسطين التاريخية) لصالح برنامج وطني يستهدف تحقيق وطن (الشرعية الدولية)، وفقا للقرار242. وهنا قد تلتقي الارادة الوطنية والعربية والدولية ضمن هدا المشروع. ويلتقي هذا التوجه مع اعلان الدولة الفلسطينية بالجزائر في نوفمبر1988، كما ينسجم مع المبادرة العربية التي تقدمت بها السعودية في قمة بيروت 2002 وصادق عليها القادة العرب بالإجماع، وبالتالي تنسجم مع الشرعية الفلسطينية والعربية والأممية (دولة على حدود 4 جوان 1967؛ أي على 22 بالمائة من فلسطين) وهو ما يتيح إعادة إحياء القضية الفلسطينية على أسس الشرعية الدولية وليس على أسس أوسلو.
النتيجة أن إصلاح منظمة التحرير يحسم مسألة تمثيل الشعب الفلسطيني. وهي خطوة مهمة لو تمّت لحقق الفلسطينيون العديد من النجاحات الدبلوماسية. ولكن الأمر يحتاج أيضا إلى إعادة بناء الثقة والمزيد من المراجعات في ظل بيئة إقليمية ودولية متحوِّلة.
ثانيا: الوطن المتاح (سلطة الحكم الذاتي)
سلطة الحكم الذاتي هي سلطة تحت الاحتلال، سلطة بلا سلطات، وما تمتلكه مجرد صلاحيات في إطار سلطات الاحتلال، ولكن مشاركة حركة حماس في انتخابات 2006 والفوز بها، جعل السلطة أداةً لصمود الشعب الفلسطيني وليس أداة للتنسيق الامني مع الاحتلال لمواجهة المقاومة، الأمر الذي عجَّل بالانقسام الفلسطيني، لذلك يؤكد “بيان الجزائر” على الشراكة السياسية في بناء المؤسسات وإجراء انتخابات مسبقة.
لكن، وإدراكا لواقع الأمر، فإن المتوقع أن قوات الاحتلال لن تسمح بنجاح عمليةٍ انتخابية تستهدف دعم صمود الشعب الفلسطيني، ولذلك وفي انتظار البيئة الموضوعية للانتخابات تحدَّث أيضا “بيان الجزائر” عن القيادة المتاحة، من خلال القيادة الجماعية للأمناء العامِّين للفصائل الفلسطينية. ولذلك إذا تعطل المسار الانتخابي لأي سبب كان تكون القيادة الجماعية للفصائل الفلسطينية القيادة المتاحة التي تقع تحت مسؤولية الفصائل وليس مسؤولية الاحتلال، إذ عليها تأكيد استقلال قرارها السياسي وموقفها الوطني السيادي.
ولعل فكرة القيادة المتاحة والوطن المتاح هي التوليفة التي ستسمح بجعل التنسيق بين الفصائل من خلال وحدة القيادة هي الأداة المتاحة حاليا لحماية واستمرار الوحدة الفلسطينية في الداخل إذا تعثرت العملية الانتخابية. وبالتالي يقدّم “إعلان الجزائر” الحلَّ العملي لأزمة القيادة الفلسطينية كمقدِّمة لحل أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، والذي يحتاج إلى المزيد من التشاور والتنسيق بين الفصائل للاتفاق على أولوياته.
إن “إعلان الجزائر” استهدف الوصول إلى توليفة تنهي أزمة التمثيل من خلال إصلاح مؤسسات الوطن المعنوي للفلسطينيين وهو المنظمة باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأيضا إصلاح ما يمكن من مؤسّسات الوطن المتاح أي سلطة الحكم الذاتي لضمان صمود الشعب الفلسطيني بالداخل، وإذا حسنت النيّات واستقل القرار السياسي للفصائل، فإننا سنشهد مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني، يواجه فيه الفلسطينيون العالم بلغةٍ واحدة وموحدة. وهو ما يتيح للدبلوماسية الفلسطينية والجزائرية والعربية تعميق أدوارها المنسجمة مع الشرعية الدولية وكسب المزيد من التأييد للقضية الفلسطينية.
لقد هيَّأت الجزائر الظروف لإنجاح القمة الفلسطينية خدمة لأحد أهم محاور سياستها الخارجية المتعلقة بدعم الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتمكّن “إعلان الجزائر” من كسب التأييد العربي والدولي ومنه ترحيب الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي والأمين العام للأمم المتحدة.
والجزائر، وهي تقوم بمهمتها القومية والدينية، وفي إطار مصالحها الوطنية، تبرق أيضا برسالة للاحتلال الصهيوني الذي أصبح يقف على حدوها الغربية، أن الجزائر أيضا حاضرةٌ أيضا على جميع خطوط النضال العربي في فلسطين وقبلها في لبنان وسوريا.
الشروق