على مدى أكثر من عقد، تعددت أماكن الاحتجاجات الشعبية في تونس وتغيّرت ملامحها، فبعد أن كان شارع الحبيب بورقيبة القلب النابض للثورة وتداعياتها، اضطر التونسيون لاحقا لاختيار أماكن أخرى للتظاهر بعدما لجأت السلطات إلى إغلاق جزء كبير من “شارع الثورة” للحد من التظاهرات، وحصرها في مكان صغير يقع في آخر الشارع أمام مبنى المسرح البلدي.
ويقع شارع بورقيبة في قلب العاصمة ضمن ما يسمّى في تونس “وسط البلاد”، ويبدأ بتمثال للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ممتطيا جواده (أعاده الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لمكانه عام 2016 بعد إزالته من قبل نظام بن علي) وينتهي بنصب تذكاري للمفكر الكبير عبد الرحمن ابن خلدون.
وشهد الشارع تظاهرات عارمة شارك فيه آلاف التونسيين خلال الثورة، ورددوا فيها شعارات تطالب برحيل الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وتمكّنوا في ليلة 14 كانون الثاني/يناير عام 2011 من إسقاط نظامه، حيث فرّ إلى السعودية.
لكن الاحتجاجات لم تتوقف بعد ذلك في شارع بورقيبة، وتركزت أساسا أمام مبنى وزارة الداخلية، وهو ما دفع السلطات التونسية لإغلاق النصف الأول من الشارع بحواجز حديدية طويلة، بحيث لم يبق أمام المتظاهرين سوى فسحة صغيرة أمام المسرح البلدي، الذي تحوّل بدوره إلى مبنى رمزي لتظاهرات المعارضة بدءا بحكم الترويكا وانتهاء بحكم الرئيس قيس سعيد. كما شهدت ساحة “القصبة” أمام مقر رئاسة الحكومة التونسية، وقفات احتجاجية عدة، بدأت باعتصامي القصبة الأول والثاني اللذين نظمتهما حركة النهضة عام 2011 للمطالبة برحيل حكومة محمد الغنوشي (آخر رئيس وزراء في عهد بن علي)، والمطالبة بانتخاب مجلس تأسيسي (برلمان)، وهذا ما تحقق عمليا، حيث استقال خلال ندوة صحفية في 27 شباط/ فبراير عام 2011، كما تم انتخاب برلمان جديد في 23 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه.
ومع تبدّل مراكز القوى بعد الثورة واستبدال النظام الرئاسي الذي حكم البلاد لنحو ستة عقود بآخر برلماني معدّل جاء مع صعود حركة النهضة للسلطة، وكرّسه دستور 2014، تركّزت الاحتجاجات أمام مبنى البرلمان بعدما أصبح المركز الأساسي للسلطة. وشهدت البلاد تظاهرات واسعة في ساحة البرلمان في مدينة “باردو” التابعة للعاصمة، وأبرزها “اعتصام الرحيل الأول” في 26 تموز/ يوليو عام 2013 ، الذي جاء عقب اغتيال القيادي اليساري البارز محمد البراهمي، ودعا إليه اتحاد الشغل وائتلاف الجبهة الشعبية، اليساري، حيث تطالب المحتجون حينها بحل المجلس التأسيسي (أول برلمان بعد الثورة) وحكومة الترويكا برئاسة علي العريض واستقالة الرئيس منصف المرزوقي.
وردت حركة النهضة والائتلاف الحاكم بـ”اعتصام القصبة الثالث” في 3 آب/أغسطس 2013 والذي سمّي حينها بـ”مليونية الوحدة الوطنية ودعم الشرعية”، وقالت “النهضة” إن الاعتصام يهدف للتنديد بما سمته “محاولة الانقلاب” من المعارضة التي جمّدت عضويتها في البرلمان استنكارا لاغتيال البراهمي، ومساندة للجيش التونسي بعد مقتل 8 جنود في أحداث جبل الشعانبي (غرب تونس).
كما نظم معارضون لـ”النهضة” احتجاجات كبيرة في حزيران/ يونيو 2020، للمطالبة بحل البرلمان وتعديل النظام السياسي وتنظيم انتخابات برلمانية جديدة، ضمن ما سمي حينها “اعتصام باردو الثاني”، والذي لم يحقق أهدافه في تلك الفترة. وخلال حكم الرئيس قيس سعيد، عادت التظاهرات إلى الشوارع والساحات التونسية، حيث حشدت حركة النهضة في 27 شباط/فبراير عام 2021 الآلاف من أنصارها في شارع محمد الخامس المتاخم لشارع بورقيبة، الذي قامت السلطات بإغلاقه، للتظاهر تحت شعار “مسيرة الثبات وحماية المؤسسات” في ظل استمرار أزمة التعديل الوزاري بين حكومة هشام المشيشي والرئيس قيس سعيد.
كما نظم اتحاد الشغل تظاهرات عدة في ساحة “محمد علي” أمام مبنى الاتحاد في العاصمة، للمطالبة بوضع خريطة طريق لإنقاذ البلاد، منتقدا سياسة “الحكم الفردي” التي ينتهجها الرئيس قيس سعيد. وبعد إعلان الرئيس قيس سعيّد عن “تدابير استثنائية” قام من خلالها بتجميد البرلمان (وحله في وقت لاحق) وحكومة المشيشي، واستأثر بجميع السلطات في البلاد، شهدت الساحات والشوارع الرئيسية في تونس تظاهرات متواصلة تطالب برحيل سعيّد وإلغاء دستوره الجديد، فضلا عن تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.
واعتبر مراقبون أن التظاهرات الأخيرة التي نظمتها المعارضة ضد الرئيس سعيد وتزامنت مع الذكرى الثانية عشرة للثورة، تعتبر الأكبر في تاريخ البلاد منذ رحيل بن علي، لكنها لم تحقق نتائج مماثلة نتيجة غياب الظروف الداخلية والخارجية التي كانت سائدة قبل الثورة.
ولجأ معارضو سعيد في الاحتجاجات الأخيرة إلى الشوارع الجانبية على غرار “الحبيب ثامر” و”باريس” و”جان جوريس” للوصول إلى شارع الثورة في محاولة لاجتياز الحواجز التي وضعتها قوات الأمن التونسية.
القدس العربي