مَن يستمع إلى أطفال فلسطين وهم يتحدّثون أمام وسائل الإعلام، أو من خلال السوشيل ميديا، تدهشه تلك الفصاحة التي يمتلكونها، والمقدرة على التعبير عن أنفسهم، وشرح معاناتهم بسبب الاحتلال الإسرائيلي. فلا يملك، إلى التضامن معهم، إلا أن يتساءل كيف لهؤلاء الصغار سناً أن يكونوا كباراً إلى هذا الحد، ويمتلكوا هذا المقدار من الوعي ورباطة الجأش والشكيمة.
لو توقّفنا قليلاً عند أطفال غزة، الجيل الذي ولد في العام 2008 والسنوات القليلة التي تلتها. هذا الجيل وحده عاش على الأقل خمس حروب إن لم تكن أكثر في حال حسبان الاعتداءات اليومية والقصف بالطيران والمدفعية وسواها من آلة الحرب الفتّاكة، فضلاً عن الحصار اليومي المتواصل، وما يتسبّب به من معاناة وأزمات.
يمكننا جميعاً، خصوصاً في فلسطين ولبنان أن نؤرّخ أعمارنا بالحروب، قبل النكبة أو بعد النكسة، قبل اجتياح العام 1978 أو بعد اجتياح العام 1982، قبل مجزرة قانا أو بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي، وهكذا دواليك. العدوانية الإسرائيلية لم تترك يوماً في ذاكرة أعمارنا بلا جروح وندوب وذكريات موجعة، لكن يظل ما عاشه ويعيشه أطفال غزة فوق كلّ تصوّر أو احتمال إلى درجة تفوق الوصف.
أطفال غزة سبقوا أعمارهم، صاروا رجالاً ونساءً قبل الأوان. هذا لا يعني أنهم فقدوا براءاتهم، بل هم الأكثر براءة بيننا لأنهم الأكثر استحقاقاً للحياة، وقد شاهدناهم في الفسحات المتاحة بين حرب وأخرى كيف يعيشون طفولاتهم، يلعبون ويغنون ويرقصون ويرسمون ويحلمون بحياة حرّة كريمة أسوة بأطفال العالم كله، لكن تلك الفسحات سرعان ما تتقلّص وتمّحي بفعل العدوانية الإسرائيلية التي لا تريد لهم أصلاً أن يولدوا، وسمعنا جميعاً خلال حرب الإبادة الجارية في غزة كيف يبرّر حاخامات الصهاينة قتل الأطفال وبقر بطون الحوامل.
من اللحظات المؤثّرة التي تابعتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي طفلة فلسطينية لم تتجاوز العاشرة من عمرها تحكي بفخر واعتزاز كيف استطاعت إنقاذ كتبها ودفاترها المدرسية قبل مغادرة بيتهم، الذي اضطرت لمغادرته قبل أن يقصفه “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، وتقول بكل براءتها إنها لو خسرت كتبها خسرت مستقبلها الذي تتمنّى أن تصبح فيه مهندسة.
هذا الوعي الذي عبّرت عنه مهندستنا الطفلة لا يقتصر فقط عليها لأنها تمثّل معظم بنات جيلها وأبنائه، ويستطيع كل متابع لمجريات العدوان الإسرائيلي على غزة أن يكتشف مستوى الوعي الذي يمتلكه هؤلاء الأطفال الذين أباد منهم “الجيش” الصهيوني حتى الآن أكثر من 15 ألف طفل مع سبق التعمّد والإصرار، وذلك لأنه يعلم أنه لو تركهم يكبرون سوف يحملون الراية، ويستكملون مهمة تحرير وطنهم من رجس الاحتلال.
الحروب تكثّف المشاعر والأحاسيس، تجعلنا نخشى على أحبّتنا أكثر، نشتاق لمن هم بعيدين عنا أكثر، نلتصق بمن هم معنا أكثر، والعرب قالت قديماً “الموت بين الأهل نعاس”. لكن القصد من وراء هذه المقولة الموت العادي الطبيعي، وليس الموت مع الأهل جميعاً مثلما يحصل في غزة حيث تبيد “إسرائيل” عائلات بأكملها وتمسحها من السجل المدني!
مثلما تكثّف الحروب المشاعر والأحاسيس فإنها تكثّف الوعي والإدراك. هؤلاء الأطفال الذين تفتّح وعيهم على الاحتلال ومجازره وجرائمه، و”اختلسوا” طفولتهم البريئة بين حرب وأخرى، اضطرّوا لأن يصيروا أكبر من أعمارهم، لأنّ التحديات التي واجهتهم، والأسئلة التي راحوا يبحثون عن إجابات عنها، مختلفة عن تلك التي تواجه أترابهم في رياح الأرض الأربع، لذا ليس غريباً ولا مستغرباً أن يكونوا بهذا الوعي والإدراك، وهم أيضاً الذين ورثوا عن أسلافهم مأساة يقترب عمرها من المئة عام بالتمام والكمال، تمام الوعي وكمال الكفاح في مواجهة نقصان الاحتلال الذي لا يشبع من اغتصاب الأرض والحياة.
هؤلاء الأطفال، أطفال فلسطين، أطفال غزة وجنين وسواها من مدن وبلدات ودساكر تقاوم الاحتلال البغيض، هم أكثر وعياً وإدراكاً، وهم أكثر استحقاقاً للحب والحياة، لهم الحرية لا محال.
**
لو كان للجندي حبيبةٌ مثلك سمراء كالنشيد (*)
ووردةُ عاشقٍ في فوهة البندقية
وقصيدةٌ يكتبها على ضوء قمرٍ أعزب
وجذعٌ عتيقٌ حفرَ عليه اسمك/اسمها.
لو حفظ صغيراً قصائد قيس وطرفة والمعري
لو غنّى العتابا والميجانا ودَلْعَنَ صوتَهُ في دبكةِ الريح: يُمَّه موّال الهوى.
لكنه طارئ ليس إلّا،
لا قمح في جلدته ولا زيتون
لا شمس البلاد لوّحت أحلامه ولا قمر ساهَرَه على سطح الجنوب
لغته لقيطة وفي نبرته خوف الغريب من غريبه
فجأة حطّ هنا كشوكةٍ ضالّة تفتّحت في غير موضعها
أو كنبتةٍ صناعية لا ترتعش لهبّة عطرٍ أو نسيم روح
لذا كان سهلاً عليه التصويبُ نحو قدميك
حين عرف أنهما تسيران في الأرض لا عليها
وأن فيهما من ملح البلاد
من نعومة الموسيقى وذاكرة السنديان
وأن فيهما من حنان الطين على باطن القدمين
وحنين المولود الجديد إلى عتمته الأولى.
هكذا نحن وبلادنا: والدة ومولودة
لا وعد ولا ميعاد إلا لمن ارتدى طينها حافياً
ومضغ في تبغها نيكوتين الانتماء.
**
من قصيدة الشاعر “على كرسيّ متحرك”