أكبر بلد عربي، أكبر بلد أفريقي، أكبر بلد على شاطئ البحر المتوسط؛ لا هو في محور الممانعة حتى “يتحسّس” محور التطبيع من التعاون معه، ولا هو في محور التطبيع حتى “يتحسّس” محور الممانعة من التعاون معه. ومع هذا كله، فإن لبنان الرسمي يُصِرّ على عدم تطوير علاقاته بالجزائر على الرغم من كل ما يُظهره هذا البلد من استعداد للمساعدة ورغبة في التعاون، وعلى الرغم من كل ما ينقله السفير اللبناني في الجزائر محمد الحسن من أفكار يمكن تطويرها بين البلدين، سواء على مستوى الدعم الجزائري المباشِر، وخصوصاً في قطاع النفط الذي يمثّل ركيزة الاقتصاد الجزائري، أو على مستوى استثمار القطاع اللبناني الخاص في كثير من المجالات الصاعدة في الجزائر، مثل الزراعة والخدمات، كما يفعل السعوديون والأتراك والأوروبيون هناك اليوم، آخذين في الاعتبار أن الجزائر، عبر كل ما تمثّله من حجم بشري (أكثر من 43 مليون نسمة)، إنما هي بوابة رئيسة أيضاً إلى كل من أفريقيا وأوروبا.
واللافت هنا أن الموقف السياسي الرسمي والموقف الشعبي الجزائري، الواضحين والحادَّين في دعمهما للمقاومة ضد “إسرائيل” وضد التطبيع، لا يمنعان الأتراك والسعوديين والأوروبيين من التسابق إلى الاستثمار في الجزائر، بعد أن نجحت في تجاوز الصعوبات الاقتصادية وبناء اقتصاد ثابت وواعد، علماً بأن أغلبية الدول الإقليمية تربط أيّ انفتاح على بيروت بموقفها السياسي، بينما لا تربط الجزائر موقفها الإيجابي جداً تجاه لبنان واللبنانيين بالموقف السياسي للحكومة اللبنانية، أو أحد الأحزاب اللبنانية، أو وزير أو إعلامي، كما تفعل دول أخرى، وخصوصاً السعودية.
وهو ما يُضاعف غرابة الموقف اللبناني، الذي يُصرّ على تجاهل تطوير العلاقات اللبنانية الجزائرية، على الرغم من أن الجزائر لا تمثّل اليوم دولة ثانوية اقتصادياً، وإنما هي تمثّل استثناءً حقيقياً على مستوى النمو الاقتصادي، الذي بلغ عام 2021 أكثر من أربعة في المئة (وفقاً لرئاسة مجلس الوزراء الجزائري)، وهي بلغت أخيراً مرحلة متقدمة جداً في الموازنة بين قوتها النفطية وتطوير القطاعات الإنتاجية والخدماتية الأخرى.
ومن أبرز المشاكل اللبنانية في مقاربتها للعلاقة بالجزائر، الإصرارُ الرسمي الدائم على التعامل مع الجزائر والمغرب وتونس بصفتها دولةً واحدة، على الرغم من العلاقة المتوترة جداً بين المغرب والجزائر، فتأتي الزيارات اللبنانية الرسمية للدول الثلاث بحكم قربها الجغرافي، بعضها من بعض، وهو ما يُسقط مفعول الزيارة فوراً. وكذلك الأمر عند البحث في تعزيز الاتفاقيات، بحيث يفكّر الوزراء اللبنانيون بسرعة في الجزائر والمغرب بدلاً من وضع تصوّر لكل واحدة من الدولتين، مع وجوب التذكير دائماً بأن الجزائر هي البلد العاشر في العالم من حيث المساحة، وهي تُعتَبر اليوم الممرَّ الاقتصادي الرئيسي على مستوى الاستيراد والتصدير لستّ دول أفريقية، في ظل استقرار سياسي هائل مقارنةً بما تمرّ به الدول المجاورة لها، وخصوصاً تونس وليبيا.
وبُعيد انفجار مرفأ بيروت، كانت الجزائر تقدَّمت على جميع المزايدين بإرسال كلّ ما يمكن إرساله، من أطبّاء وجرّاحين ودفاع مدني وموادّ طبية وصيدلانية، وغيرها الكثير مما وصل إلى بيروت في الطائرات الأربع الأولى، قبل الفرنسيين والخليجيين وغيرهم، بكثير، قبل أن تتبَع هذه الطائراتِ باخرةٌ جزائرية محمَّلة بمواد البناء من دون طبل وزمر وإعلام وخِيَم لشكر “سعادة السفير” و”طويل العمر”، كما تفعل سفارات أخرى. ومع ذلك، فإن هذا كله لا يثير حماسة اللبنانيين أو اهتمامهم.
وإذا كان الموقف الجزائري السياسي الرسمي يمكن أن يمثّل إنقاذاً حقيقياً للموقف السياسي اللبناني الرسمي، الذي لا يعرف أين يتموضع، في حين أن تموضع الجزائر يمكّنها من التواصل مع الجميع من دون أن يمسّ أحد قناعاتها السياسية الراسخة بشأن تأييدها المقاومة، فإن المطلوب، بحسب الدبلوماسيين المعنيين، هو الاستعاضة عن إضاعة الوقت اللبناني المتواصلة باستنفار حكومي لدراسة الواقع الجزائري جيداً، كما حدث – نسبياً – مع العراق، من أجل وضع تصوُّر واضح حيال الخطوات المطلوبة لتنمية العلاقات الاقتصادية الثنائية، وفق أربعة مستويات، على الأقل:
1. دعم لبنان نفطياً، في ظل القدرات الجزائرية الكبيرة في هذا الصعيد، من دون إلحاق أي ضرر كبير يُذكَر بالخزينة الجزائرية.
2. زيادة التبادل التجاري بين البلدين، وخصوصاً أن لبنان يستورد كثيراً من المواد التي تنتج الجزائر مثلها وبنوعية أفضل، لكن من دول لا تستورد أي شيء يُذكَر من لبنان. وهو ما يمكن تعديله لما فيه مصلحة البلدين، مع العلم بأن إلغاء الازدواج الضريبي للسلع والبضائع ضروري بين البلدين.
3. تقديم محفِّزات جدية لتشجيع رجال الأعمال في البلدين على اكتشاف الفرص المتاحة، وخصوصاً على صعيد الصناعات الغذائية اللبنانية، وهو المجال الذي بدأت السعودية الاستثمار فيه في الجزائر، بينما هناك خبرات لبنانية يمكنها الاستفادة جدياً وكثيراً من الفرصة الجزائرية في هذا الصعيد. وهو ما تهمله المصانع اللبنانية على الرغم من إلحاح السفير اللبناني في الجزائر على هؤلاء من أجل التعرّف أكثر إلى ذلك البلد وممرّاته نحو أفريقيا وأوروبا. ويُذكَر في هذا السياق أن هناك حركة لبنانية (خجولة)، في قطاعات المال والمصارف والفنادق والبناء، وخصوصاً في مدينة وهران شمالي غربي الجزائر، لكنها لا تقارَن أبداً بحضور رجال الأعمال الأتراك والسعوديين والفرنسيين طبعاً.
وكانت السعودية والجزائر احتفلتا أخيراً، على الرغم من كل المواقف السياسية الشجاعة للجزائر، بافتتاح مصنع “حليب المراعي السعودي” في الجزائر، كشراكة سعودية – جزائرية تتطلع إلى غزو السوقين الأوروبية والأفريقية، بالإضافة إلى السوق الجزائرية الكبيرة.
4. إلغاء التأشيرة بين البلدين، في ظل مبادرة لبنان إلى اعتماد مبدأ “التسليم الفوري للتأشيرة”، بحيث تُسلِّم السفارة اللبنانية في الجزائر التأشيرات إلى الجزائريين في اليوم نفسه لتقديم الطلب، أو في مطار بيروت. كما تضاعف أخيراً عدد الرحلات الأسبوعية من الجزائر إلى بيروت، لكن لا بد من تكثيف الاتصالات الرسمية من أجل حصول العكس أيضاً، بحيث تقدَّم تسهيلات مماثلة من الجانب الجزائري، وهو ما يُفترض أن يُثار، في طبيعة الحال، في اللجنة الجزائرية اللبنانية العُليا، التي لا تجد، كما يبدو، ما يستوجب الاجتماع.
واللافت هنا أن مكاتب السياحة في البلدين نجحت في تسويق وجهات، لا تُقارَن من قريب أو بعيد بلبنان والجزائر، لكنها لم تهتم بتطوير السياحة بين البلدين، بينما لا تجد الوفود الاقتصادية اللبنانية، التي تدور عبثاً في الفلك الخليجي نفسه، أي جدوى من البحث عن خيارات أخرى في الجزائر أو غيرها.
الأهم من هذا كله، هو وضع بيروت بصورة واضحة تصوراً لعلاقاتها العربية، عشية انعقاد القمة العربية في الجزائر في آذار/مارس المقبل، في ظل المسعى الجزائري الكبير لمشاركة سوريا في الاجتماعات. ويمكن لبيروت الاستفادة طبعاً من الإيجابية الجزائرية من جهة، وسعي الأفرقاء الإقليميين والدوليين لاسترضاء الجزائر من جهة أخرى.
كاتب سياسي لبناني