على الرَّغم ممّا تحلّى به الرئيس الجزائري من تحفّظ دبلوماسي عَلَته نبرة من التهذيب السياسي المقصود، فإنّ حديثه، في آخر لقاء صحافيّ له، عن الملفّات السياسية والأمنية الإقليمية، كان زاخراً برسائل سياسيّة مشفَّرة، تكاشفنا بنمط إدراك الجزائر للسجالات الجيوسياسية الدائرة عند تخومها الجغرافية المباشرة، ولاسيما في مالي وليبيا وتونس (بدرجة أقل)، وتخبر – في الوقت ذاته – بتطوّر لافت وجدير بالرصد بشأن تصوّر الجزائر للإرهاب وتعريفها له، ينمّ عن شكّ واضح وارتياب ظاهر لديها بشأن نية الدول الغربية في القضاء على الإرهاب في الساحل والصحراء.
حين يقول الرئيس الجزائري إنّ “أطرافاً تتدخّل لتُحبط مسعى الجزائر لإيجاد حلّ للأزمة الليبية، في كلّ مرّة نقترب منه”، ففي ذلك تلميح إلى الدول التي تستنكف عن تطبيق المقاربة الجزائرية للحلّ بعد أن تجذّر في سياستها منطق الصراع على النفوذ من دون الانخراط، بصورة آلية، في النزاع الليبي الداخلي طوال العقد المنقضي، وهي الدول عينها التي عرقلت الحلّ السياسي في ليبيا طوال الأعوام الأخيرة نتيجة دواعٍ ذات صلة بمصالحها الاستراتيجية، حتّى وإن غصّت خطاباتها الدبلوماسية بالدعوة إلى السلام وإحلال الاستقرار في ليبيا.
يُنبئ هذا التصوّر الجزائري – استتباعاً – بأنّ مردّ الإخفاق المتواتر، الذي تؤول إليه المسارات السياسية لحلّ الأزمة الليبية، هو الاختراقات التي تقودها قوى أجنبية فوق إقليمية، لا تأبه بمصلحة ليبيا وشعبها. وإذ تنتهج هذه الدول هذه السياسة، فإنّها لا تُبقي ليبيا مرتهنة للمناكفات الجيوسياسية الدولية فقط، بل توفّر لنفسها أيضاً ذريعة التدخّل والبقاء في ليبيا، والتحكّم في مصير شعبها. وبالنتيجة، تطيل عمر التهديد الذي تواجهه الجزائر عند حدودها الشرقية.
ولدى جوابه عن سؤال بشأن مالي، حافظ الرئيس الجزائري على نبرة الخطاب نفسها، حين عدّ أنّ “جزءاً من الإرهاب في مالي مفتعَل نتيجة دواعٍ استراتيجية لدول أخرى تغذّي الإرهاب”.
إنّ في هذا تعضيداً لتأويلنا السابق، وتبياناً على نحو أكثر جلاءً، فحواه أنّ الجزائر ترى أنّ مصلحة بعض الدول الغربية، الموجودة عسكرياً في مالي، وعلى رأسها فرنسا، تقتضي استمراراً لآفة الإرهاب، ذلك بأنّ زوال الأخير ينفي تلقائياً سبب بقائها هناك، وينزع يدها عن خيوط اللعبة الجيوسياسية الدائرة في مالي، وفي عموم إقليم الحزام الساحلي، ويفسح المجال أمام فواعل جديدة ستكسر حتماً حصرية الوجود الفرنسي والوجود الأوروبي في المنطقة.
وحريّ بنا، في هذا السياق، أن نشير إلى أنّ التطوّر المسجّل في تصوّر الجزائر لمسبّبات الإرهاب جاء منسجماً مع الأسس التكوينية لمقاربتها الأمنية، ومتقاطعاً مع تشكيكها العلني سابقاً في صدق نيّات مكافحة الإرهاب لدى الدول، التي تتعمّد دفع الفدية إلى التنظيمات الإرهابية، والتي لا يـُستبعد أن تخفي نيّة إحباط مساعي الجزائر لتجفيف منابع الإرهاب وراء سلوكها هذا.
تلكم هي بالضبط القراءة التي تَلُوح بقوّة بعد الاعتداءات الإرهابية في الأشهر الأخيرة في مالي، والتي استهدف آخرُها قاعدةَ “كاتي” العسكرية بالقرب من العاصمة باماكو في 22/07. ولئن برّرت الجماعة، التي تبنـّت العملية، هجومَها بمناهضة الحكومة الانقلابية في مالي ورفضها التعاون مع فاغنر، إلّا أنّ سياق العملية وتوقيتها يَشِيان بتناغم مثير للريبة بين أهداف هذه الجماعة وأهداف فرنسا الحالية في مالي، والتي تتمحور حول تجذير ثقافة الخوف واللايقين الأمنيَّين لدى الماليِّين، والاستماتة في التشكيك في قدرة الحكومة الموقتة على حماية أمن البلد، بعد أن غدا أمر مغادرتها مالي مسألة وقت فقط.
في الموازاة، فإن الاعتماد على هذه الرؤية الجزائرية، كأداة تفسيرية، سيُفضي إلى الإقرار بأنّ الدول التي يخدمها بقاء الإرهاب في مالي هي سبب التعطيل المتواصل لتطبيق “الاتفاق من أجل السلم والمصالحة في مالي”، الموقَّع عام 2015، والمعروف بـ”اتفاق الجزائر”، بين حكومة باماكو وجماعات الأزواد المطلبية المتمرّدة في الشمال.
ومعروف أنّ “اتفاق الجزائر” بُني – على النقيض من المقاربة الغربية المستندة إلى الحلول العسكرية التدخّلية – على مقاربة شاملة مندمجة مستلهَمَةٍ من التجربة الجزائرية في مكافحة الإرهاب، تُولي اهتماماً بالجوانب السياسية والتنموية فيما تقترحه من حلول أمنية، وترفض رفضاً قاطعاً كل تدخّل أجنبيّ من شأنه خرق سيادة مالي.
بناءً عليه، فإنّ كلّ ما تعدّه فرنسا – ومن ورائها الدول الغربية التي انخرطت معها في قوّة تاكوبا (Takuba) – إرهاباً لا تملك مالي فكاكاً منه إلّا عبر مساعدة عسكرية منها، هو جزئياً صنيعتها التي افتعلتها لإضمار مآرب استراتيجية وجيوسياسية تتوخّاها في مالي والساحل، وأفريقيا بصورة عامة، بدليل أنّ فرنسا أصبحت تُعَدّ من أشدّ الدول عداءً للحكومة الموقتة في مالي، لا لأنـّها أتت في إثر انقلاب كما تدعّي، بل لأنها رافضة للوجود الفرنسي في أراضيها، وحسّاسة تجاه كلّ ما من شأنه الإبقاء على سيادة مالي مرتهنة لفرنسا، ولأنها اختارت لنفسها شراكات أمنية بعيدة عن المظلة الفرنسية.
وواضح، بعد هذه النبرة الجديدة في الخطاب الجزائري، أنـّنا سنشهد قبضة حديدية أشدّ في العلاقة بين الجزائر وفرنسا بسبب الملف المالي، الذي لا يبدو أن الجزائر ستقبل التلاعب الفرنسي به، هذه المرّة.
ولئن كان الطلاق بين مالي وفرنسا سيؤدّي إلى توفير فرص أكبر من أجل تفعيل بنود “اتفاق الجزائر”، فإنّ ذلك لا يعني البتّة أنّ الطريق ستكون معبّدة أمام الفرقاء الماليّين، إذ كما شهدنا عملية ضدّ قاعدة “كاتي”، حيث إقامة الرئيس الانتقالي آسيمي غويتا، في تموز/يوليو الماضي، فقدْ نشهد هجمات مفتعلة أخرى ومحاولات أكثر لإثارة ارتباكات أمنية في مناطق أخرى في مالي، سيكون عنوانها الإرهاب، لكنها ستخفي، في باطنها، تخبّطَ فرنسا، التي تشاهد بعينيها كيف تفلت مالي بالتدريج من بين يديها.
الميادين