شهدت الولايات المتحدة، أمس الجمعة، يومًا تاريخيًا بعدما قررت المحكمة العليا إنهاء الحق في الإجهاض الذي صدر عام 1973، لتقضي بذلك على نصف قرن من الحماية الدستورية في واحدة من أكثر القضايا إثارة للانقسام في المشهد السياسي الأمريكي.
وقالت المحكمة، والتي يعتبر أغلب قضاتها محافظين، إن بإمكان كل ولاية أن تسمح بالإجراء أو أن تقيده كما ترى، كما كان سائدَا قبل السبعينيات، مضيفة أن “الدستور لا يمنح الحق في الإجهاض، وتعاد سلطة تنظيم الإجهاض إلى الناس وممثليهم المنتخبين”.
وتجمع خارج المحكمة العليا مئات الأشخاص بعضهم يذرف دموع الفرح والبعض الآخر يبكي حزنًا، وسط إجراءات أمنية مشددة أقرت قبل صدور الحكم.
وذكرت صحيفة “إندبندنت” إنه من المرجح أن يؤدي القرار إلى سن مجموعة قوانين جديدة في نحو نصف الولايات الأمريكية الـ 50، ستقيد بشدة عمليات الإجهاض أو تحظرها تمامًا وتجرمها، ما سيجبر النساء على السفر لمسافات طويلة إلى الولايات التي لا تزال تسمح بهذا الإجراء.
وقال القاضي صمويل أليتو، إن الحكم في قضية الإجهاض رأي غالبية قضاة المحكمة “خاطئ بشكل صارخ”، مضيفًا أن “الإجهاض يمثل قضية أخلاقية عميقة يتبنى الأمريكيون آراء متضاربة بشدة بشأنها”، وأردف أن “الدستور لا يحظر على مواطني كل ولاية تقنين أو حظر الإجهاض”.
ورفضت المحكمة الحجة التي استندت إليها قضية الإجهاض، ومفادها أن للنساء الحق في الإجهاض على أساس الحق الدستوري في الخصوصية على أجسادهن.
في المقابل، تعهدت منظمة “الأبوة المخططة” الرائدة في مجال توفير خدمات الإجهاض في الولايات المتحدة، بـ”عدم التوقف أبدًا عن النضال” من أجل الحق في الإجهاض.
واعترض القضاة الثلاثة الليبراليون في المحكمة على الحكم الذي جاء غداة قيام المحكمة بتكريس حق المواطنين في حمل مسدس في الأماكن العامة. وقالوا، “أيًا كان النطاق الدقيق للقوانين المقبلة، فإن نتيجة قرار اليوم المؤكدة هي تقييد حقوق المرأة”.
وكانت القضية المعروضة أصلاً على المحكمة تتعلق بقانون في ولاية ميسيسيبي يقيد الإجهاض خلال 15 أسبوعًا من الحمل، لكن أثناء النظر في القضية في ديسمبر، أشار عدد من القضاة إلى استعدادهم للمضي أبعد من ذلك.
وبعد 17 شهرًا من تركه المنصب، حقق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب وعدًا انتخابيًا في قضية الإجهاض. فخلال رئاسته، عين ترامب 3 قضاة هم القاضي نيل جورساتش في عام 2017 والقاضي بريت كافانو في عام 2018 والقاضية إيمي كوني باريت في عام 2020.
وكان من شأن ذلك أن المحكمة التي كانت تتكون من 4 قضاة محافظين مقابل 4 قضاة ليبراليين في بداية حكم ترامب صارت بها أغلبية راسخة من القضاة المحافظين عددها ستة قضاة مقابل ثلاثة قضاة ليبراليين عند نهاية رئاسته.
وكان القضاة الثلاثة الذين عينهم ترامب من بين الأغلبية التي أبطلت الحكم في قضية الإجهاض. وفي الشهر السابق على انتخابه رئيسًا في نوفمبر عام 2016 وعد ترامب، خلال مناظرة مع منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون بتعيين قضاة يلغون الحكم في القضية.
وقال ترامب في بيان أصدره مساء الجمعة “القرار (الحكم) الذي صدر الجمعة، وهو أكبر نصر للحياة خلال جيل، بالإضافة إلى قرارات أخرى أُعلنت في الآونة الأخيرة لم تكن لتصدر إلا لأنني فعلت كل شيء كما وعدت به، بما في ذلك تعيين ثلاثة قضاة أجلاء وهم دستوريون أقوياء والحصول على التأييد لتعيينهم (في الكونجرس) في المحكمة العليا للولايات المتحدة”.
وأضاف “لي عظيم الشرف أنني فعلت هذا”.
في 2020 أصبح ترامب أول رئيس أمريكي يحضر المسيرة من أجل الحياة التي ينظمها سنويًا في واشنطن مناهضو الإجهاض في وقت قريب من ذكرى الحكم في القضية.
وبعد صدور قرار المحكمة، توالت ردود الفعل من مختلف الأطياف السياسية. وانتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن القرار، وقال إن صحة وحياة النساء في بلاده أصبحت الآن في خطر. وأضاف في خطاب في البيت الأبيض بعد صدور الحكم، “إنه يوم حزين للمحكمة وللبلاد”.
وتعهد بايدن بمواصلة الكفاح من أجل الحقوق الإنجابية، وقال إنه ليس هناك أمر تنفيذي يمكنه ضمان حق المرأة في الاختيار. وحث الناخبين على التصويت لصالح النواب الذين سيعملون في الكونجرس على تقنين حقوق الإجهاض كقانون أساسي في عموم البلاد.
وقال بايدن، “هذا الخريف التصويت على رو. الحريات الشخصية هي محل التصويت”. وشدد على أن تكون الدعوة لأي احتجاجات سلمية، وقال “لا ترهيب. العنف ليس مقبولاً على الإطلاق”.
وفي صفوف الديمقراطيين، قالت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، في بيان، “هذا الحكم القاسي شائن ومؤلم. ثقوا تمامًا أن حقوق النساء وجميع الأمريكيين ستطرح في الاقتراع (انتخابات التجديد النصفي للكونجرس)”، في نوفمبر.
وقال وزير العدل الأمريكي ميريك جارلاند، إن وزارته ستستخدم كل الوسائل الموجودة تحت تصرفها لحماية الحرية الإنجابية، وإن الوكالات الاتحادية قد تستمر في تقديم خدمات الصحة الإنجابية إلى أقصى حد يسمح به القانون الاتحادي.
وأضاف جارلاند في بيان، “هذا القرار يوجه ضربة قاصمة للحرية الإنجابية في الولايات المتحدة. سيكون له تأثير مباشر لا رجعة له في حياة الناس في جميع أنحاء البلاد… سيكون تأثيره غير متناسب إلى حد كبير في ظل الأعباء الكبرى التي يتحملها الأشخاص من غير أصحاب البشرة البيضاء، وذوي الموارد المالية المحدودة”.
الرئيس السابق باراك أوباما قال بدوره، “اليوم، لم تبطل المحكمة العليا سابقة تعود إلى ما يقرب من 50 عاماً فحسب، بل عطلت القرار الشخصي، الأكثر قوة، الذي يمكن لأي شخص اتخاذه لحساب أهواء السياسيين وأصحاب الأيديولوجيات… هذا هجوم على الحريات الأساسية لملايين الأمريكيين”.
من جهته، قال زعيم الجمهوريين بمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، في بيان، “هذا انتصار تاريخي للدستور وللطرف الأضعف في مجتمعنا… (القرار) شجاع وصحيح”.
خارجياً، اعتبرت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن إلغاء حق الإجهاض في الولايات المتحدة يمثل “ضربة هائلة للحقوق الإنسانية للنساء”.
وقالت ميشيل باشليه في بيان، إن “الحق في الاجهاض الآمن والقانوني والفاعل متجذر بعمق في القانون الإنساني الدولي وهو في صلب استقلالية النساء وقدرتهن على القيام بخياراتهن بأنفسهن”، مبدية أسفها لقرار “يشكل تراجعًا كبيرًا”.
وعبّر مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جيبريسوس عن خيبة أمل بالغة بسبب القرار الأمريكي.
وقال لـ”رويترز” على هامش قمة للكومنولث تعقد في رواندا، “أشعر بخيبة أمل بالغة لأن حقوق النساء واجبة الحماية. وكنت أتوقع أن تحمي الولايات المتحدة مثل تلك الحقوق”.
كما اعتبر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن قرار المحكمة العليا الأمريكية “خطوة كبيرة للوراء”. وقال في مؤتمر صحفي في “إنه قرار مهم للغاية. ينبغي أن أقول لكم إنه، في اعتقادي، خطوة كبيرة إلى الوراء”. وأضاف، “أؤمن على الدوام بحق المرأة في الاختيار ورأيي لم يتغير”.
لكن هذا الدعم ليس مطلقاً، إذ قال نحو 26 في المئة ممن تم استطلاع آرائهم، إن القانون يجب أن يتيح الإجهاض في كل الأحوال، فيما قال 10 في المئة، إن القانون يجب أن يجرمه في كل الأحوال. وقال أكثر من نصف من استطلعت آراؤهم، ويبلغ عددهم 4409 أشخاص، إن القانون يجب أن يتيح الإجهاض في بعض الحالات ويجرمه في حالات أخرى.