فرضت جائحة كورونا على المغرب تقييم سياساته في ما يخص هجرة الأدمغة التي باتت ظاهرة مقلقة خصوصا مع تزايدها وارتفاع نسقها في السنوات الأخيرة. وتجد الرباط نفسها اليوم في أعقاب الأزمة الصحية أمام تحدّي استعادة كفاءاتها المهاجرة للاستفادة من خبراتها في مشاريع التنمية والبحث العلمي.
وأظهرت جائحة كورونا حاجة المغرب إلى كفاءاته المهاجرة خاصة في مجال البحث العلمي، حيث بات في حاجة إليها أكثر من أي وقت مضى للاستفادة من خبراتها في خضم الأزمة الصحية أعقاب ظهور الوباء.
وشكلت الأزمة الصحية فرصة لإعادة النظر في التعامل مع نزيف الأدمغة الذي يفرغ المغرب من طاقاته الشابة، حيث أثبت الكثير من الطلبة والباحثين قدراتهم وكفاءتهم حين قدموا اختراعات علمية لمواجهة تداعيات الفايروس.
وبدل الاستعانة بخبرات دولية، يفكر المغرب في كيفية استعادة الكفاءات المهاجرة، ويشكل إقناعها للعودة إلى الوطن والتخلي عن فرص عمل مهمة في الخارج وما تتلقاه من إغراءات مالية تحديا حقيقيا.
وأقر حسن بلعربي أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة ألميريا (جنوب شرق إسبانيا) بأن “هذه الجائحة فرصة لإعادة التفكير في مسألة الاستثمار في الكفاءات المغربية بصفة عامة والأدمغة المغربية في المهجر بالخصوص، والتي تفوقت في أبحاثها وأعمالها وأثارت إعجاب العالم”. وتابع في تصريح لـ”العرب” أنه “يجب الاستفادة من هذه الكفاءات في تنمية المملكة، وقد عبر العديد منهم عن ذلك في الكثير من المناسبات”.
صعوبات الإدماج
يجمع الخبراء والمتابعون على أن الكفاءات المغربية رأسمال بشري وجب استثماره وفتح الآفاق أمامه للمساهمة في المشاريع التنموية والاقتصادية والعلمية المفتوحة، وذلك للمحافظة على تلك النخبة المهمة وتوفير كل الشروط المادية واللوجيستية وتيسير كل الظروف الملائمة لبقائها داخل الوطن والاستفادة منها بهدف تسريع وتيرة النمو والتطور داخل المملكة.
وكشف وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي سعيد أمزازي، أن أزيد من 600 مهندس يغادرون المغرب سنوياً في إطار هجرة الأدمغة، مشيرا إلى أن هذه الهجرة ظاهرة دولية ولا تقتصر فقط على المغرب، وذلك نتيجة حركية الكفاءات عبر القارات للبحث عن ظروف عمل ملائمة أكثر على الصعيد مادي.
وتأتي مغادرة الخبرات المغربية في سياق التحولات التكنولوجية ومستويات المختبرات الدولية في هذا المجال التي تختار خيرة الطاقات العلمية الشابة، في المقابل لا يقدم المغرب تحفيزات لاستقطاب كفاءاته المنتشرة في العالم.
وبرأي خبراء فإن هناك عوائق كثيرة يجب تحديثها وتطويرها لتسريع وتيسير انخراط الكفاءات المهاجرة في إثراء القطاعات العالمية والفكرية في المملكة. وأوضح هشام معتضد الباحث المغربي في العلاقات الدولية والعلوم السياسية في حديثه لـ”العرب” أن “هذه العوائق مرتبطة خاصة بالإدارة وثقافة التدبير المهني المرتبطة باستقطاب الكفاءات”.
وفيما أقر بوجود إرادة سياسية قوية لإدماجهم ورؤية واضحة للدفع بالأدمغة المهاجرة لوضع خبراتها في خدمة الوطن والمواطن، إلا أن هذا الانفتاح مؤقت ومحتشم للمسؤولين والساهرين على تنفيذ هذه
السياسيات، وهو ما يفقد الكفاءات المغربية الثقة في رغبة وطنية جادة تسهل إدماجها في الحركية والديناميكية التي تعرفها مختلف القطاعات المحلية.
وعبر معتضد عن اعتقاده بأن غياب إطار قانوني لإدماج الكفاءات المغربية المتواجدة خارج المغرب وضعف التنسيق بين ما هو إداري وقانوني وسياسي في هذا الملف يضعفان دور كل المؤسسات المنخرطة في تدبير وتنفيذ رؤية الحكومة وسياستها تجاه هذه الفئة من المغاربة.
وكشفت دراسة حديثه نشرها موقع “روكريت” الرائد في مجال التوظيف، أن 91 في المئة من الحاصلين على شهادات عليا في المغرب يرغبون في الهجرة للعمل إلى الخارج، ويفضل 37 في المئة منهم كندا، و25 في المئة يفضلون فرنسا، و12 في المئة يرغبون في الهجرة إلى ألمانيا، رغم أن غالبيتهم الساحقة يشتغلون في المغرب ومنهم من يتلقون رواتب محترمة.
وحسب إحصائيات الفدرالية فإن الكفاءات عالية المهارة، والتي غالباً ما تدرس قرابة 12 سنة بعد البكالوريا، تختار مغادرة الوطن بحثاً عن فرص عمل محفزة وظروف عيش جيدة.
وبرأي لحسن حداد السياسي والأكاديمي المغربي فإن ظاهرة هجرة الكفاءات باتت مقلقة ومحرجة للغاية بالنسبة إلى المغرب، لافتا إلى أن هجرة 600 مهندس سنويا تعادل تقريبا عدد الخريجين في أربع مدارس للهندسة بالدار البيضاء.
الاستثمار في الكفاءات
في محاولة لوقف استنزاف الأدمغة المغربية دعا باحثون في مختلف المجالات إلى إحداث شبكة للكفاءات المغربية في كل أرجاء العالم، ووضع استراتيجيات مشتركة للدفاع عن مصالح المغرب في بلدان الاستقبال.
وأشار هؤلاء إلى أن الكفاءات المغربية ليست بالضرورة مدعوة للعودة إلى المغرب، وإنما للمساهمة في نقل المهارات والخبرات إلى الوطن الأم وتكوين الأجيال القادمة، مؤكدين على أهمية تعاون أكاديمي بين الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج ونظرائها في المغرب على أساس برنامج يحدد الاحتياجات والمتطلبات في كل مجال من مجالات التخصص.
وأبرز معتضد أن الظرفية العالمية الحالية خاصة تحت تأثير الجائحة، تفرض أكثر من أي وقت مضى إعادة النظر وكسب رهان استقطاب الكفاءات الفكرية والعلمية والمهنية في الخارج من أجل الاستفادة من تجاربها المختلفة والمركبة التي راكمتها في عدة ميادين باختلاف الاختصاصات.
ودعا الأمين العام لمجلس الجالية عبدالله بوصوف إلى إحداث وكالة خاصة بمغاربة العالم، يكون من بين مهامها استرجاع الكفاءات والأدمغة المغربية المهاجرة، وكذلك تحفيز مغاربة العالم على الاستثمار في وطنهم الأم، مشددا على ضرورة التنسيق بين مختلف الفاعلين من أجل دراسة الحاجات والكفاءات التي يحتاجها المغرب من أبنائه المتواجدين بالمهجر.
وانتقلت هجرة الأدمغة إلى فئة الأطباء، حيث أظهرت دراسة أجريت على 3000 مغربي أن نسبة 56 في المئة منهم أكدوا أن شروط عملهم غير موفقة ورواتبهم هزيلة جداً، وهو معطى يدعو إلى القلق، خصوصا أن المغرب يقوم بتكوين هؤلاء بينما تستفيد دول أخرى من خدماتهم.
ويسعى المغرب لاستقطاب الكفاءات الأجنبية في مجال الطب، بعد إقرار تعديلات قانونية من شأنها تخفيف شروط ممارسة المهنة بالنسبة إلى الأجانب والحاصلين على دبلومات الطب في دول أخرى، وقد صادق مجلس النواب، الغرفة الأولى للبرلمان المغربي، على مشروع قانون يسهل مُمارسة مهنة الطب على الأجانب والمغاربة المزاولين للمهنة بالخارج.
وأكدت دراسة موقع “روكريت” أن 74 في المئة من الكفاءات المهاجرة ترغب في العودة إلى المغرب في يوم من الأيام، بينما قال 44 في المئة من غير المهاجرين إنهم يفضلون البقاء في بلدان الهجرة مدى الحياة.
وبرأي معتضد فإن مفتاح نجاح استقطاب هذه الفئة ذات التكوين الفكري والعلمي والمهني المتميز يمر عبر تأهيل قنوات تواصل قادرة على خلق ثقة بين الكفاءات المهاجرة والوطن الأم.
وتعمل الحكومة المغربية على تعبئة الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج بكل تخصصاتها لمشاركتها بشكل فعال في النموذج التنموي الجديد، والمساهمة في تقوية جاذبية المغرب في مجال الاستثمار.
والاستثمار في الكفاءات المتواجدة خارج الوطن الأم ليس بالجديد، بل هناك دول كثيرة خاضت التجربة بنجاح كل واحدة حسب إمكانياتها، كالصين التي استفادت من علمائها وخبرائها الذين كانوا يشتغلون في الولايات المتحدة، إضافة إلى الهند وتايوان وجنوب أفريقيا التي راكمت تجارب مهمة في استقطاب كفاءاتها في المهجر.
وفي ما يخص خطة المغرب يوضح بلعربي أن هناك ثلاثة خيارات وبدائل للاستثمار في هذه الموارد البشرية المؤهلة وأبرزها العودة النهائية لهذه الفئات إلى بلدهم الأم وإدماجهم التام.
مع ذلك لا يمكن تطبيق هذا الخيار على نطاق واسع لأسباب بديهية مرتبطة بعجز سوق الشغل على استيعاب أعداد كبيرة منهم، وعدم وجود شروط معيشية مقارنة بالدول التي يعيش فيها هؤلاء.
وبين بلعربي أن البديل الثاني يتركز على الحركية، أي عبر تنقل هؤلاء إلى المغرب لفترات محدودة للعمل في مشروع ما دون أن يؤثر ذلك على حياتهم العملية أو العائلية في بلد الإقامة، ويجب الإشارة إلى أن هناك مساعدات من المؤسسة الدولية للهجرة وخاصة في مجال التكوين في هذا الجانب.
صحيفة العرب