تحتكر الدولة التونسية صناعة السجائر المربحة ما يضعها نظريا في موقع قوة، لكن ازمة أسعار مزمنة في هذا القطاع تفاقمت مؤخرا بتزامن مثير للسخرية مع محاولة اخيرة تبذلها الحكومة لاستعادة السيطرة عليه تؤكد ان اليد العليا في سوق التبغ لمافيات احتكار اشتد عودها في السنوات الأخيرة مستفيدة من فرجوية وتراخي صناع القرار.
وسجلت الأيام الاخيرة انفلاتا قياسيا لأسعار السجائر المحلية والمستوردة حتى بلغ سعر بعضها ضعف السعر الرسمي الذي تفرضه وكالة التبغ والوقيد (حكومية).
وتمتلك الوكالة التي تشرف عليها وزارة المالية الحقوق الحصرية لاحتكار إنتاج وتوزيع السجائر في تونس، وهي واحدة من أكبر الشركات الحلية حيث تشغل بطريقة مباشرة 3000 شخص وبطريقة غير مباشرة 000 22 شخص.
وترتبط الوكالة بقطاع زراعة التبغ التونسي، حيث تقوم حصريا بشراء ما يتم حصده من أكثر من 9000 زارع تبغ في ولايات الشمال (جندوبة و نابل و بنزرت وباجة) يعني 048 3 طن منتج على مساحة 2240 هكتار.
وتصنع الوكالة 455 مليون علبة سجائر توزع على 000 111 بائع سجائر على الأراضي التونسية، وتستود حوالي 145 مليون علبة سجائر اجنبية وتتحكم نظريا في الاسعار.
وعلى الأرض تسير الأمور منذ سنوات بشكل مناقض تماما لما يفترض، فالأسعار المقننة لا يتم احترامها الا استثناء، والوكالة لا تتحكم في ابسط دواليب القطاع فضلا عن نهش السجائر المهربة لنصف السوق وفق اخر الاحصائيات.
وكانت شركة بريتش أميركان توباكو البريطانية كشفت في دراسة قبل أربع سنوات أن تهريب السجائر يكلف الاقتصاد التونسي أكثر من نصف مليار دولار سنويا، يتم استغلالها من قبل عصابات الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية.
وبغض النظر على غول التهريب الذي تفادت الحكومات المتعاقبة التصادم معه، يحمل المراقبون شبكات توزيع السجائر المحلية الصنع المسؤولية الكاملة عن انفلات الاسعار.
وخسائر الدولة جراء المضاربة في القطاع الذي يوفر 6 بالمئة من عائداتها الضريبية تناهز 480 مليون دولار سنويا، تذهب الى “أباطرة التبغ” و”البعض من مديري القباضات المالية” الذين تحوم حولهم شبهات فساد.
وتسند الدولة رخص بيع واقتناء السجائر المحلية لشبكة واسعة من الموزعين الذين يتم اختيارهم عادة على خلفية هشاشة أوضاعهم الاجتماعية، نظريا على الاقل.
غير ان فئة متنفذة من اصحاب هذه التراخيص تنتزع حق التصرف في عشرات التراخيص، والتي يمنع بيعها، من اصحابها بطرق ملتوية.
كما يقوم “بارونات التبغ” بشراء حصص صغار التجار بمجرّد تسلّمها من مراكز التّوزيع التي تشرف عليها الدولة مقابل هامش ربح إضافي يزيد على الـ6 بالمائة التي يضبطها القانون.
وبهذه الطريقة ينتزع حفنة من الاشخاص من الدولة كل قدرتها على ضبط الاسعار والتدخل، فيقومون في مرحلة أولى باحتكار ما اكتنزوه من ملايين علب السجائر لاصابة السوق بالشلل، ثم يبدأون في توزيع غنيمتهم وبيعها بالاسعار التي يحددونها.
وتدريجيا تحوّلت السوق السوداء إلى المتحكّم الرئيسي في عمليّة التزويد وبرزت طبقة من الأثرياء الجدد راكموا ثروات هائلة.
وهذا الوضع في الحقيقة من غير الممكن ان يصمد لولا شبكة واسعة من المتنفّعين خيوطها ممتدة بدءا من وكالة التبغ والوقيد نفسها مرورا على القباضات الماليّة (حكومية) التي تشرف على التوزيع وصولا الى صغار التجار وأصحاب الرّخص الذين يقومون “بكراء” رخصهم.
محاولة اعادة الاوضاع لنصابها تأتي بنتائج عكسية فورية
وتبرر الحكومة التونسية عجزها عن استعادة السيطرة على سوق التبغ باستحالة مراقبة نقاط البيع، ما دفع بها الى فتح الباب لبيع السجائر داخل المساحات التجارية الكبرى (السوبر ماركت) متعللة بسهولة مراقبة الاخيرة وآملة في اعادة التوازن للاسعار عبر فرض “مناطق خضراء” تحترم التسعيرة وتعدل الأسواق.
غير ان تزامن الاستعداد لبدء تطبيق هذا الاجراء مع اضراب تشنه القباضات المالية (مصالح الجباية)،، المسؤولة على توزيع حصص التبغ واصدامه بمعارضة اصحاب الرخص انفسهم ادى الى نقص حاد في العرض وارتفاع جنوني في الاسعار.
ويستغل التجار وموزعو السجائر إضراب مصالح الجباية المستمر منذ أكثر من 3 أسابيع لفرض قوانينهم على السوق وثني الحكومة عن السماح ببيع السجائر في المساحات التجارية الكبرى.
ورغم تعهد وزارة المالية بعدم التقليص في كميات التبغ والسجائر المخصصة لأصحاب الرخص، يرى اصحاب الرخص ان دخول المساحات التجارية الكبرى على الخط يضرب قوتهم ويهدد استقرار 16 ألف عائلة ترتزق من هذه التجارة.
ومؤخرا شن اصحاب الرخص وقفات احتجاجية تطالب الحكومة بالتراجع عن قرارها وملاحقة المحتكرين مباشرة بدل فرض ما يرون انه اشبه بعقاب جماعي.
والى حدود اللحظة لم يجني المستهلكون في تونس من معركة استعادة السيطرة على سوق التبغ التي لم ينجلي غبارها بعد غير مزيدا من الاحتكار.
والسؤال الذي يتبادر للاذهان، ان كانت الدولة باحتكارها لقطاع التبغ صنعا وتوزيعا غير قادرة على السيطرة عليه وفرض سيادة القانون، فما الذي سيتطلبه الامر لملاحقة سرطان السوق السوداء في بقية القطاعات.
ولعل الحل الوحيد بين أيدي المدخنين في تونس لوقف امتداد ايدي المضاربين لجيوبهم المهترئة اصلا من زيادات شبه سنوية في الاسعار ليس الا اختيار “اهون الشرور” او ربما افضل الحلول بالانقطاع عن التدخين.
يذكر انه وبحسب تقرير للمنظمة العالمية للصحة، تتصدر تونس الدول العربية في عدد المدخنين. ويقدر عدد المدخنين في تونس بحوالي 3.5 مليون مدخن، 10 في المئة منهم من النساء.
المصدر: إيست أونلاين