يعم السكون المكان ليترك للزائر المجال للتأمل في صور مقاومي معركة التحرير الوطني من أبناء محافظة سيدي بوزيد (وسط غربي تونس) والتي تروي الكثير عن تضحيات من قدموا الغالي والنفيس من الأحياء والأموات في سبيل استقلال البلاد.
في متحف “أحبك أبي المقاوم” الصغير في قرية النصر بمعتمدية المكناسي، ترقد بسلام صور بعض المناضلين من بين 306 مقاومين تحتضنهم قريتهم المنسية.
بمحاذاة المتحف، يدرّس الأستاذ محمد محفوظي لتلاميذه مادة الفرنسية وكانت عيناه تلتقيان كل يوم بهذا المبنى المهجور والذي تحول إلى وكر لكل أنواع الفساد بعد أن كان قديما محلا صغيرا ابتاعه أهالي القرية لحفظ سلعهم والتبادل بها.
لم ترق للأستاذ حال المبنى ولا قربه من مؤسسة تربوية وما سيمرره من أفكار سلبية للأطفال وهو ابن المقاوم الراحل أحمد المحفوظي، فبادر، مع عدد آخر من أبناء مقاومين وبمجهوداتهم الفردية، بإعادة تهيئة المقر وصيانته وتحويله إلى متحف “أحبك أبي المقاوم” وإهدائه لكافة مقاومي القرية.
ويفتح أصحاب المبادرة أبواب المتحف أمام الجميع لإثرائه بصور المقاومين ومتعلقاتهم لحفظ ذاكرة أبطال القرية للأجيال القادمة، ورد الاعتبار لهم.
فزع
يؤكد محفوظي للجزيرة نت أن المتحف حركة رمزية بسيطة لتكريم رجالات أشاوس أفنوا أعمارهم في الجبال من معركة إلى أخرى ضد الاستعمار الفرنسي وأنه “صيحة فزع ضد التهميش الممنهج بحقهم من مختلف الحكومات المتعاقبة التي أقصتهم ولم تمنحهم حقوقهم المشروعة”.
ورغم بساطة الفكرة، فقد كان لها وقع كبير في نفوس بعض المقاومين الذين زاروا المتحف وتأثروا كثيرا لمشاهدة صورهم وأصدقائهم الراحلين، كما يضيف محفوظي.
ولا يخفي محفوظي تأسفه الشديد لعدم تكريم مقاومي قرية النصر بإطلاق أسمائهم على بعض الشوارع وإسعادهم وهم أحياء، وعدم تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة “فمنهم من لا يستطيع شراء الدواء للعلاج ويحصلون فقط على منح (راتب شهري) لا تسمن ولا تغني من جوع”.
جحود
كما ينتقد محفوظي إحياء ذكرى عيد الجلاء سنويا (15 أكتوبر/تشرين الأول) ومروره على قريتهم ومقاوميها “مرور الكرام دون أن يتذكرهم أي مسؤول محلي أو جهوي أو وطني، وهي مناسبة نتذكر فيها جحود الدولة تجاه المناضلين الحقيقيين وكأنهم يعاقبون فلا يجازون على تضحياتهم”.
ويدعو الدولة إلى استكمال الطريق التي بدؤوها وأداء واجبها تجاه أبطال تونس ومنطقتهم التي تشكو هي الأخرى تهميشا، وتفتقر لكل المرافق الأساسية.التحق المقاوم بشير العجيمي (82 عاما) منذ كان صغيرا بالفلاقة (المقاومين) وشارك في عدة معارك بالجبال، من بينها معركة هداج وسيدي عيش بمحافظة قفصة (جنوب غربي) والمالوسي (سيدي بوزيد) ومعركة جلاء آخر جندي فرنسي من التراب التونسي بمحافظة بنزرت (الشمال).
عزة
تروي نظرات العم العجيمي حكايات وذكريات كثيرة، ويكمن خلف هدوئه شموخ مناضل عزيز النفس فخور بمواجهته الرصاص ومعايشته أهم حقبة في تاريخ البلاد، رافضا الشكوى من أي أحد أو لأي أحد.
“لا أقول إلا الحمد لله، وإن شاء الله يكون لنا مقام أفضل عند الله وأجمل مما نحن عليه الآن” جملة رددها طيلة حديثه للجزيرة نت.
ولم يفته أن يعرّج على “نسيان مختلف المسؤولين ورؤساء تونس مقاومي النصر وإهمالهم حتى خلال إحياء ذكرى عيد الجلاء”.
بدوره، يعود المقاوم محمد الأزهر العماري (86 عاما) بالذاكرة إلى طفولته عندما قرر وبكامل إرادته “الانقطاع عن الدراسة والالتحاق بحركة التحرير الوطني وبالمقاومين في الجبال” وفق قوله للجزيرة نت.
تنقّل العماري مع المقاومين بين جبال المالوسي وبرقو في سليانة (الشمال الغربي) ووسلات بالقيروان (الوسط) وشارك في إحدى أشد المعارك التاريخية التي شهدها جبل وسلات يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
تنكر
خلّفت معركة جبل وسلات 3 إصابات لا تزال آثارها موجودة إلى اليوم في جسد العماري، وقد تم استخراج بعض الشظايا من جسده عام 1981.
يستحسن العماري مبادرة أبناء المقاومين في ظل “ما يتعرضون له من إقصاء وإهمال أثر سلبا على نفسيتهم بعد ما قدموه وتنكّر كل الحكومات لتضحيات مناضلي الحركة الوطنية مما جعل مكانتهم تتراجع في تاريخ البلاد”.
ويدعو الدولة إلى الالتفات للمقاومين، وتكريمهم وتحسين أوضاعهم الاجتماعية لأنه “واجبها وليس منّة منها عليهم”.
ويقدر العماري عدد مقاومي محافظة سيدي بوزيد بحوالي 1284 مقاوما، بقي ألفٌ منهم على قيد الحياة وقد شاركوا بأهم معارك الكفاح المسلح ضد الاستعمار.