كتاج مرصعٍ يتلألأ في الأفق، معتليًا قمة شماء محاطة من كل جوانبها بمروج خضراء وغابات الزياتين، تتربع مدينة “دُقّة” التونسية الضاربة في التاريخ والغنية بالإرث الحضاري.
تقع المدينة الأثرية شمال غربي تونس، وتقف في شموخ وهمة، تزينها أقواسها الكلسية وأعمدتها المرمرية شاهدة على ثراء معمارها وجمال هندستها.
حين تتجه شيئًا فشيئًا نحو الموقع الأثري يتراءى لك على بعد أمتار، ما تبقى من مدينة تعاقبت عليها حضارات وشعوب مختلفة، كل ترك بصمته وأهم ما يميز حضارته.
تقع دقّة في الشمال الغربي للبلاد التونسية في منطقة جبليّة تتابع فيها الأودية والهضاب المتدرّجة، حيث تكون درجات الحرارة أكثر برودة والتربة متنوّعة وخصبة.
شيّدت دقة فوق هضبة يحيط بها من الشرق والشمال الشرقي جرف شديد الانحدار. وتشرف من خلال منحدر حاد على سهول وادي خالد. لقد توفّرت لثقة Thugga كل المستلزمات الضروريّة لنشأة تجمع سكني قديم : موقع محصّن ذو وضعيّة دفاعيّة جيّدة، مواد بناء متوفّرة وقريبة، عيون جارية وأرضا خصبة للفلاحة.
تعتبر مدينة دقة التونسية «120 كيلو متر غرب العاصمة» الشاهد الوحيد على آثار مدينة رومانية كاملة، كانت تمتد على مسافة 70 هكتارا. وقد نشأت سنة 500 قبل الميلاد، وكانت آنذاك تابعة للإمبراطورية القرطاجينية، ومن ثم أحتلها الرومان وأصبحت واحدة من أهم المدن في العالم، وثاني أهم مدينة رومانية في شمال إفريقيا بعد مدينة قرطاج التي تقع في الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية. وقد أدرجت «دقة» المعروفة قديما باسم «ثوقة» ضمن قائمة التراث العالمي في ديسمير1997، ويعني اسم «دقة» الجبل الصخري.
ا تختلف عمارة مدينة “دقة التونسية” عن عمارة المدينة الرومانية التقليدية، مثل مدينة بومبي في إيطاليا وجرش في الأردن، فالطراز المعماري الروماني يبدو واضحا وجليا فيها، فإلى جانب الأثار والمعالم الدينية، تحتوي مدينة دقة التي حولتها تونس إلى أحد أهم المواقع الأثرية في بلادها ووضعتها اليونسكو ضمن التراث العالمي، على عدد كبير من أجمل المعالم الأثرية، من ذلك المسرح الروماني الذي يتسع إلى أكثر 3500 شخص.
جمال دقة لا ينتهي عند أثارها المنتشرة على كامل أرجائها، بل يمتدّ أيضا إلى غابات شجر الزيتون وحقول القمح وعيون المياه العذبة المتدفقة التي لا تنضب مما جعل هذه المدينة مركزا للخيرات منذ القدم فهي تقع في منطقة الشمال الغربي الأكثر خضرة في تونس الذي كان قديما يزود روما بالقمح. وزادت هذه المناظر الطبيعية والسهول الممتدة والهضاب المرتفعة المدينة، جمالا على جمالها الذي استمدّته من أثارها ومعالمها التاريخ.
زار توماس داكروس Thomas d’Acros موقع دقة سنة 1631 وهو من مقاطعة البروفانس ومن أصل إسباني أسّره القراصنة واشتراه أحد تجار تونس الأثرياء قبل أن يفتدى ويعتنق الإسلام. كانت دقة Dougga في هذه الفترة مخفية وسط ضيعة فلاحيّة صغيرة فأصبحت منذ بداية القرن 18 م من أهمّ المواقع الأثريّة التي يرتادها الرحّالة الأوروبيّون في البلاد التونسيّة. فانطلقت الأبحاث بنسق حثيث منذ السنوات الأولى للحماية الفرنسيّة بتونس سنة 1881. وكانت الحصيلة حفر ثلث الموقع تقريبا لكن هذه الحفريات مكنت من إبراز عدد كبير من المعالم المتنوّعة والتي تعود إلى عدّة فترات تاريخيّة. ونجد من بينها معالم فريدة من نوعها جعلت من دقة موقعا خارقا للعادة.