في كل عام، وعلى امتداد شهرين متواصلين من العام الهجري القمري (محرم وصفر)، يتحول العراق إلى لوحة بانورامية كبيرة جداً بألوان سوداء وحمراء وخضراء، تتخللها مختلف مظاهر الحزن واللوعة والأسى في إطار إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، في العاشر من شهر محرم الحرام عام 61 هـ. ومع أن استذكار هذه المناسبة وإحياءها يتركّزان في مدن الجنوب والفرات الأوسط وجزء كبير من العاصمة بغداد، بحكم وجود الأغلبية الشيعية من أتباع المذهب الجعفري الإثني عشري، إلّا أن مدناً ومناطق متعددة تتميز بطابعها السني أو الكردي أو التركماني – إن صحّ التعبير – تشهد مظاهر مماثلة، ارتباطاً بحقيقة مفادها أن ثورة الإمام الحسين كانت ثورة عالمية إنسانية ضد الظلم والطغيان والاستبداد، ولم تحمل عناوين ومسميات طائفية ومذهبية ضيقة، بصرف النظر عن التوظيفات السلبية لها من جانب هذا الطرف أو ذاك، لأسباب ودواعٍ سياسية معينة.
ولا تقتصر المراسم والمظاهر لإحياء ذكرى ثورة الطف على العراق والعراقيين فقط، بل إنها تمتدّ أيضاً إلى كثير من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، بيد أن هناك خصوصية للعراق في هذا الجانب، تتمثّل بأن الطائفة الشيعية تشكل أغلبية أبناء الشعب العراقي، إلى جانب أن أرض العراق كانت هي ميدان ثورة الطف. وتتمثّل أيضاً بوجود مرقد الإمام الحسين، ومرقد أخيه العباس، عليهما السلام، في كربلاء، فضلاً عن وجود مراقد ستة من الأئمة المعصومين، البالغ عددهم إثني عشر إماماً، في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، بالإضافة إلى المراقد والمقامات للعشرات من ذرية الأئمة المعصومين، والتي تتوزّع بين مدن الجنوب والوسط والشمال.
وبينما نشهد سنوياً، منذ إطاحة نظام حزب البعث في ربيع عام 2003، ملايين الأشخاص يُحْيون ذكرى استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وصحبه في ظل طقوس وتقاليد وممارسات متعدّدة تمتزج فيها الثوابت والمعتقدات الدينية في العادات والأعراف والثقافات الاجتماعية، نجد أن البعد السياسي كان على طول الخط حاضراً بقوة من خلال خطباء المنابر وأشعار الرثاء، من جوانب وزوايا متعددة، تعكس طبيعة هموم الناس ومعاناتهم وطموحاتهم وتطلعاتهم ومواقفهم السياسية.
وعلى العكس من عهد نظام حزب البعث (1968-2003)، الذي دأب على محاربة كل الممارسات الدينية، ولاسيما الشعائر الحسينية، وملاحقة القائمين بها، وتعريضهم لكل أنواع العقوبات وأقساها، باتت تلك الشعائر والمناسبات، بعد سقوط ذلك النظام، تشكل ظاهرة اجتماعية دينية لافتة، وفرصة مهمة من أجل تشخيص الضعف والخلل والانحراف، سياسياً ومجتمعياً، في كل الصعد والمستويات، وخصوصاً ما يتعلق منها بأداء منظومات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتحديد مسارات الإصلاح، في مفهومه العام والشامل.
قد لا يختلف اثنان بشأن حقيقة، مفادها أن الثورة الحسينية تُعَدّ من أهم وأبرز الثورات التي مرت على البشرية خلال تأريخها الطويل، نظراً إلى طبيعة الأهداف السامية التي حملتها، وعمق التضحيات التي شهدتها، والرسائل الإنسانية البليغة التي انطوت عليها، فضلاً عن تأثيراتها الشاملة في مساحات مكانية وزمنية كبيرة جداً، وبالتالي ديمومتها، وعدم اقتصارها على المنظومة الإسلامية، ولا منظومة مذهب اهل البيت، عليهم السلام.
وطبيعي أن التعدّد والتنوّع في القراءات والتحليلات للأبعاد السياسية والاجتماعية للنهضة الحسينية، إلى جانب تجلياتها الإنسانية العاطفية، دوما ما تأتي بالجديد، وإن بدا للبعض أنه تكرار لما كُتب أو قيل في اوقات سابقة. ولعلّ ذَيْنَك التعدد والتنوع يعكسان، في جانب منهما، شمولية الثورة الحسينية، وديمومتَها، في جانب آخر، على الرّغم من تبدل الظروف والأحوال. وهذا ما يتمحور حول حقيقة، مفادها أن أغلبية حركة الحسين، عليه السلام، ونهضته وثورته، لم تأتِ من فراغ، وإنما أَمْلَتها تراكمات كثيرة وكبيرة من الانحرافات السياسية والاجتماعية والأخلاقية للمنظومة الحاكمة حينذاك.
وبما أن السلبيات والأخطاء والانحرافات كانت وما زالت وسوف تبقى موجودة وشاخصة في كل زمان ومكان، وبما أن الأفكار والتوجهات والأهداف الإصلاحية للثورة الحسينية لم تقتصر على بقعة جغرافية معيَّنة، ولا على حقبة زمنية محدَّدة، لذا فإن عالمية الثورة الحسينية، كسِمَة وصِفة أساسيتين، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بشمولية الثورة، من حيث الطبيعة والجوهر لأفكارها وأهدافها ومضامينها وأبعادها الإنسانية العظيمة، إذ إن من أهم سمات النهضة الحسينية وعوامل انتصارها – كما يقول البعض – أنها لم تكن محدودة الأهداف، أو مقتصرة على فئة معينة، فلقد جاءت لتعلن انتصارها للإنسانية المسلوبة وإرجاع الحقوق الضائعة من جراء التمييز والطبقية. فجيش الإمام الحسين (علیه السلام)، على الرغم من قلّة عدده، تجسّدت فيه الإنسانية والعالمية، وتمثّلت عالمية الثورة الحسينية من خلال تأثر كثيرين بهذه الثورة، وخصوصاً من غير المسلمين، من أهل الديانات الأُخرى في العالم. كما أن عالميتها واضحة، في جانب آخر، ألا وهو عالمية الرسالة الإسلامية التي جاء بها النبي محمد (ص)، وبالتالي عالمية رسالة الأئمة (عليهم السلام)، ومنهم الإمام الحسين (علیه السلام). لذا، فإن الذي يريد اختزال القضية الحسينية وحصرها في شعب معيّن، أو طائفة معينة، فهو مخطئ، ويحتاج إلى إعادة النظر في كل منظومته المعرفية.
لا شكّ في أنه حينما يستلهم قادة وزعماء سياسيون ودينيون وكتّاب ومفكرون، يتبنون أفكاراً ونظريات وأيديولوجيات بعيدة كل البعد عن الدين الإسلامي، مبادئَ الثورة الحسينية وقيمها، فإن ذلك يثبت ويعزّز سمتها العالمية والشمولية. فالزعيم الهندي الكبير، المهاتما غاندي، يقول: “تعلمت من الحسين كيف أنتصر وأنا مظلوم”. كما يقول الزعيم الجنوب أفريقي الثائر، نيسلون مانديلا: “لقد أمضيت أكثر من عشرين عاماً في السجن، وبعد ذلك قررت في إحدى الليالي أن أستسلم بالتوقيع على جميع شروط الحكومة وقيودها، لكني فجأة بدأت أفكّر في الإمام الحسين وفي حركة كربلاء، فمنحني الإمام الحسين القوة للوقوف طلباً لحق الحرية والتحرر”. كما يؤكد شاعر الهند الكبير، رابندرانت طاغور: “من أجل إبقاء العدل والحقيقة حيَّين، لا عن طريق جيش أو أسلحة، فإن النجاح يمكن تحقيقه في التضحية بالنفس، وهو ما قام به الإمام الحسين. الإمام الحسين زعيم الإنسانية”.
ولعلّ مفهوم الإصلاح وهدفه، عند الإمام الحسين، عليه السلام، لم يقتصرا على مجرد تغيير منظومة الحكم والسلطة الفاسدة، ولا على جلب التأييد والتعاطف مع مظلومية أهل البيت، عليهم السلام، ولا على تحقيق انتصار عسكري في معركة لم يكن لها أن تدوم سوى بضع ساعات، أو أيام قليلة، وإنما تمثّلا بتأسيس منهج سلوكي عام يتجاوز الحالة الآنية الراهنة، ويقوم على رفض الظلم والطغيان والاستبداد، أيا كانت أشكالها ومظاهرها، والانتصار للمظلومين والمضطهَدين، والدفاع عنهم، وتكريس مبادئ الحق والعدل، في إطارهما الإنساني الواسع. وهذا هدف إنساني – سياسي قامت عليه كل الثورات والحركات الإصلاحية، أياً كانت أسسها ومرتكزاتها الأيديولوجية ومنابعها الاجتماعية والثقافية.
إذا كانت الممارسات والسلوكيات البراغماتية -الميكيافيلية طغت وهيمنت على مجمل العمل السياسي، المحكوم بالمصالح والحسابات المادية الضيقة، وبالواقعيات القائمة، بصرف النظر عن توافقها وانسجامها مع المبادئ الإنسانية النبيلة، والقيم الدينية الصحيحة، التي جاءت بها مختلف الأديان والرسالات السماوية، فإن الثورة الحسينية مثّلت استثناءً وخروجاً عن ذلك السياق. ولعل هناك فارقاً كبيراً جداً بين من يسعى لتأسيس سلطة زمنية تحقق له مكاسب وامتيازات سياسية ومادية ضيقة وخاصة ومرحلية، وبين من يسعى لبناء كيان اجتماعي وسياسي على الأسس والمرتكزات الخاصة بالعدالة والحق والإيمان والعمل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومصاديق ذلك الفارق الكبير نجدها كثيرة وكبيرة وشاخصة في التأريخ الحديث والمعاصر.
بقلم : عادل الجبوري
الميادين