الذين في غزة أطلقوا عليها اسم عملية طوفان الأقصى لم يخطئوا، فقد كان لديهم معرفة مسبقة كبيرة بما ستجلبه.
إنه «الطوفان» الذي تجاوز الحدود الضيقة لقطاع غزة المحاصر، ليجرف الروايات والمعادلات في المنطقة، وليبتلع الأرض كلها وساحاتها. رداً على تدنيس المسجد الأقصى، كشفت الحقائق المخفية، وأزالت القشرة الرقيقة التي حاولت “إسرائيل” والغرب والعواصم العربية والإقليمية إخفاءها خلفها، لتكشف أبشع صور العجز والتواطؤ والخيانة. الخيانة، وإظهار الغرب الاستعماري في صورته الأصلية قبل أن يعيد تسمية الاستعمار بـ«الانتداب»، وقبل أن يلبس الألوان البيضاء النشوية ويظهر أمامنا بثوب الدعاة.
إنها أم المعارك الحاسمة، التي لم يسبق لها مثيل أو ستأتي في المستقبل المنظور. انها حقا لا تضاهى. إنه يمثل اللحظة الحاسمة والفاصلة بين عصرين وعصرين. لقد أنذرت زوبعة غزة بزلزال، والمعركة الآن بين مستقبلين لفلسطين والمنطقة. لن يكون من المبالغة أن نعلن للعالم أن هذه المعركة اندلعت من القذيفة صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لكن عقول “المستقبليين” غير قادرة على قياس التوابع والتداعيات التي ستحدث اتبع، أو الديناميكيات والمعادلات التي قد تبرزها.
لا أشك لحظة واحدة في أن الذين خططوا وهندسوا الطوفان وأطلقوه كالصاعقة، هم أيضاً أعدوا قوارب نجاة ذات عوامات حلقية – نعم، قوارب وليس “قارب”، فالمعارك مستمرة ضد غزة والمقاومة. ومع ذلك، فإن الحرب سوف تمتد إلى منطقة غرب آسيا بأكملها، والعالم العربي، والمناطق المحيطة بها.
في مثل هذه التجارب، يحقق المرء إما المجد أو العار. فإما أن يتخذ المرء موقفاً من أجل التاريخ، ومن أجل الأجيال القادمة أيضاً، أو أن يتراجع ويجلس، بطريقة لا تستطيع جيوش المتحذلقة وخدم السلاطين والمحاكم العربية أن تدور أو تبرر. إن ساعة الحساب قادمة لا محالة، ولو تأخرت. لقد حفرت غزة نفسها في عقول هذا الجيل وقلوبه وضمائره، ولن تتلاشى أبدا من ذاكرته الجماعية. ولا أتصور أن آثاره ستتبدد بمجرد صمت المدافع.
نكون أو لا نكون، تلك هي مسألة الحرب الوجودية التي يواجهها الشعب الفلسطيني والأمة العربية وأحرار العالم. وفي مناسبة تاريخية من هذا التفرد، ليس أمام الشعب والمقاومة وحلفائهم وأصدقائهم إلا أن ينتصروا، مهما عظمت التضحيات وطال أمد موكب النعوش.
أظن – وفي هذه الشبهة ليس هناك أثر لإثم [[القرآن 49:12، الظن في بعض الأحيان إثم] – أن عملية طوفان الأقصى كانت الإشارة لإحداث إصلاح شامل المشهد الفلسطيني بعد سنوات وعقود من الموت والسبات وسيل متواصل من التنازلات التي فشلت في إشباع الشهوات الصهيونية في التوسع والاستيطان والمحو. بعد سنوات وعقود من الخنوع والكذب، وبعد أن تحطمت الأوهام وانكشف أكبر خداع للشعب الفلسطيني – عملية أوسلو والسلطة الفلسطينية – يأتي الآن الإعلان الرسمي عن انطلاق مرحلة فلسطينية استراتيجية تتسم بمقاومة الاحتلال والعنصرية والتهويد والأسرلة وضياع الأراضي والحقوق والمقدسات. وهذا هو البديل عن الاستمرار في المشاريع التي أصبحت آثارها المظلمة واضحة حتى للمكفوفين. وهذه هي بداية نهضة واستيقاظ الحركة الوطنية الفلسطينية في كل فلسطين، وليس في غزة فقط، وفي الشتات، على أساس مقاومة الاحتلال لدحره وتفكيك استعماره الاستيطاني.
هذه هي بداية التعافي، والجبهة الموحدة، وتوحيد الشعب والقضية والمقاومة في كل مكان يتواجد فيه الفلسطينيون. وهذه هي الخطوة الأولى لإنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية وتحريرها من قبضة الفصيل الصغير النافذ الذي حولها إلى ختم تختم به الاتفاقات والترتيبات المذلة التي أنزلت الحلم الفلسطيني إلى مستوى الإدارات البلدية والمدن. الدوريات، و”الإمارات الفلسطينية المفككة”.
هذه هي بداية إصلاح شامل للديناميكيات الفلسطينية وتوازنات القوى الفلسطينية، والتي تتقاطع مع صعود الجيل Z واتجاه المقاومة الجديد في الضفة الغربية والقدس، وكذلك مع عقيدة “وحدة الساحات”. سيف القدس ويقظة الشتات الفلسطيني في بلدان اللجوء والتهجير. هذا هو الإطلاق الثاني لبالي الحركة الوطنية الستينية، وأعتقد أنها تفوق الانطلاقة الأولى في عظمتها وعظمة إنجازاتها.
وهنا نتوقف للتأكيد على أنه لا يمكن السماح لفلسطين بإهدار هذه الفرصة، ولا يمكن السماح للفلسطينيين بالتفكير في أي خيار آخر غير النصر في هذه المعركة البالغة الأهمية. قبل أن نفكر في التكلفة الباهظة التي يحملها هذا الخيار لغزة والفلسطينيين، يجب على المتشككين وضعاف القلوب والمترددين أن يفكروا للحظة في تكلفة الخيار الآخر – خيار الهزيمة لا سمح الله – بمجرد التوصل إلى “صفقة القرن”. يصبح القرن طموحًا بعيد المنال وهدفًا بعيد المنال.
وأظن ـ وفي هذه الشبهة لا يوجد أي أثر للإثم أيضاً ـ أن الحرب على غزة وشعبها ومقاومتها تعني شن حرب على حزب الله وحلفائه الإقليميين، من قزوين إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. اليوم، غزة وحماس؛ وغداً سيكون لبنان وحزب الله، وبعد غد سيكون دمشق وبغداد وصنعاء حتى يصل إلى طهران في المحطة الأخيرة – أو ربما ليس المحطة الأخيرة. هذه حرب ضد المحور بأكمله. إنها تصفية حسابات ثقيلة لنصف قرن من الصراع بمختلف أشكاله وساحاته وأدواته ومستوياته. وأطراف هذا المحور ومكوناته تدرك ذلك. إن القول المأثور “إذا سقط أحدنا، سنسقط جميعًا” موجود دائمًا في تراثهم وتفكيرهم. ولا يزال الباب مفتوحاً لحدوث شيء أكبر وأوسع وأخطر، بعد انتهاء مرحلة التسخين أو التصعيد التدريجي، واتساع نطاق الرسائل النارية في كل هذه الساحات لأغراض الحشد ووظائفها التحذيرية.
وهنا سأغامر باقتراح نظرية تحيد عن الفكرة السائدة: لقد فتحت حماس والمقاومة نافذة وفرصة لإحداث تغيير هائل ومهم في الاعتبارات والمعادلات والديناميكيات القائمة. ويجب ألا نغلق هذه النافذة بالدعوة إلى وقف إطلاق النار وخفض التصعيد أو انتظار تحول المد ضد المقاومة. وبدلاً من ذلك، يجب علينا أن نعمل على توسيع نطاق المعركة عبر ساحات متعددة، طالما أن الهشاشة الإسرائيلية العارية تظهر بعد تحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يقهر” و”الموساد المعصوم”، وطالما ظلت الولايات المتحدة قائمة. إن إسرائيل أضعف من أن تتورط في حربها الإقليمية الثالثة واسعة النطاق خلال عقدين من الزمن بعد تعرضها لهزائم مخزية في الحربين الأوليين، وما دام الغرب وحلفاؤه اليوم لا يخدمون أي وظيفة تتجاوز ضمان الظروف اللازمة لاستهداف غزة تحت ستار. بعدم توسيع الحرب، وطالما كان من الممكن إلحاق هزيمة استراتيجية بـ”إسرائيل”. وأمامنا فرصة تاريخية لتحقيق ذلك قد لا تتكرر قبل سنوات أو حتى عقود قادمة.
إذا انتصرت غزة وفلسطين والمقاومة، سينتصر المحور بأكمله، وسيتعرض محور التطبيع الحر لهزيمة مخزية. ستسقط معاقل الهيمنة الإمبريالية الأمريكية على المنطقة إلى الأبد، وستغلق الأبواب على مشروع «الناتو الشرق أوسطي» بأشكاله ونسخه المختلفة. وستتاح لبلداننا الفرصة لصياغة مستقبلها دون إملاءات. إن أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها سيكون في أيدي شعوبها، وليس في أيدي المجمعات الصناعية العسكرية الغربية وشركات النفط (وخاصة الأمريكية منها) ومجموعات الضغط وتحالفات الشر المسيطرة على السياسات الدولية. .
وهذه فرصة تاريخية لإحداث التغيير الذي تشتد الحاجة إليه في الاتجاه في المنطقة نحو المستقبل. الفرصة لا تزال موجودة، لكنها لن تبقى مفتوحة لفترة طويلة. هناك توقعات يحركها الأمل، وربما بعض التمني، بأن غزة وحركة المقاومة فيها لن تتركا لتقاتلا لوحدهما.
في السياق الإقليمي في أعقاب عملية طوفان الأقصى، هناك ملاحظات لا يمكن تجاهلها. وبعضها عبرت عنه ملايين الغاضبين الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين العربية لإدانة العدوان والتعبير عن الدعم لغزة والمقاومة – مثل حقيقة أن الأقنعة التي تختبئ وراء الأقنعة قد سقطت في كثير من الأحيان، إن لم يكن. جميع العواصم العربية. ومع ذلك، هناك بعض الملاحظات الأخرى التي تتعلق بالدولتين العربيتين الأكبر والأكثر نشاطا، مصر والمملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من مكانتها ومكانتها العربية والدولية، لم تتمكن القاهرة من إرسال شاحنة واحدة من الغذاء أو الدواء إلى غزة دون إذن إسرائيل، رغم أن معبر رفح يقع على الحدود المصرية الفلسطينية. وكان أداءها السياسي والدبلوماسي كئيباً بالفعل. إن الاستقبال المخزي للرئيس الفرنسي في القاهرة يزيد الطين بلة بقبوله الضمني للرواية الغربية الإسرائيلية حول “الجماعات الإرهابية الفلسطينية”، دون أن يكون لديه الشجاعة حتى لذكر عبارة “وقف إطلاق النار” في حضور ذلك الرئيس الذي لقد تم هزيمتها في أفريقيا وهي تسعى الآن إلى أن يكون لها دور في منطقتنا عبر البوابة الإسرائيلية.
ناهيك عن اقتراح مصر بصحراء النقب بدلاً من صحراء سيناء كملجأ مؤقت أو دائم للاجئين والفلسطينيين المهجرين قسراً. تعكس هذه العينة المخيبة للآمال من الأداء من أكبر دولة في العالم العربي مستويات متدنية لم تصل إليها حتى بعض دولنا الهامشية الصغيرة.
السعودية من جهتها تعرضت لـ«الطوفان» وهي في ذروة استعداداتها للدخول والتقدم في عملية التطبيع مع «إسرائيل». ولسوء الحظ، فسر بعض المعلقين السعوديين العملية على أنها محاولة إيرانية لعرقلة تلك العملية، مع أن عرقلة تلك العملية، بل وقطع الأرجل من تحتها، هي مهمة نبيلة وسعي أسمى من أي مهمة أخرى. وقد اتسمت معظم مقالاتهم وتغريداتهم بالانتقام والشماتة بسبب الدمار الذي لحق بغزة والمذبحة التي تعرض لها شعبها.
الجانب الأهم في الشأن السعودي هو أن الطوفان فاجأ الرياض وهي في خضم مساعيها لتولي قيادة العالمين العربي والإسلامي، برضا واعتراف الجميع. لكن سلوكها لم يكن لائقاً ببلد يسعى إلى القيادة والقيادة. واختارت الجلوس في المقعد الخلفي، حتى بالمقاييس والمعايير العربية الرسمية.
في رأيي، أضاعت السعودية فرصة ذهبية لإثبات جدارتها بالقيادة. منذ أشهر ونحن نقول إن أي حزب يطمح إلى قيادة العالم العربي يجب أن يبدأ بفلسطين وقضيتها ونضال شعبها. وإلا فمن يقبل أن يقوده أولئك الذين لا يملكون القدرة ولا القوة ولا الإرادة لاستخدام الأوراق الرابحة الهائلة المتاحة لهم لإثبات جدارتهم واستحقاقهم؟
أظن – وفي هذا الشك أيضاً أنه لا يوجد أي أثر للخطيئة أيضاً – أن الحرب على غزة ومقاومتها فتحت آفاقاً جديدة على الساحة الدولية في الصراع المحتدم حول هوية وطبيعة النظام العالمي الجديد. ويبدو أن مجلس الأمن يستعيد ذكريات “الطوفان”، ذلك أن جلساته اليوم تذكرنا بجلساته في ذروة الحرب الباردة وأزمة الصواريخ الكوبية. وهذا ما يفسر جزئياً الهستيريا التي أصابت الغرب بعد 7 أكتوبر، خاصة أن «الطوفان» ضربه وهو يكافح من أجل تحقيق النصر في أوكرانيا دون جدوى، فكان يأمل في تعويض خسائره في فلسطين وغزة وغرب آسيا.
غزة الصغيرة أصبحت نافذة واسعة لموسكو وبكين لتفعيل حضورهما في المنطقة. والآن، أكثر من أي وقت مضى، برزت هذه القوى العظمى باعتبارها القوى العظمى الأكثر انسجاماً مع الرواية والمصالح العربية، فضلاً عن كونها الأكثر التزاماً بقواعد القانون الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والشرعية الدولية.
وإذا كان لجبهات القتال أن تتوسع في أعقاب الطوفان، فإن الشرق الأوسط سيصبح البوابة الواسعة التي تبشر بنظام عالمي جديد أكثر توازناً وعدالة. وللشرق الأوسط سوابق في هذا المجال؛ مرتين على الأقل الآن قد إيذانا ببدء حقبة جديدة. المرة الأولى كانت بعد حرب السويس عندما خرجت من تحت عباءة الحقبة الاستعمارية الفرنسية البريطانية القديمة إلى رعاية الحقبة الاستعمارية الأمريكية الجديدة. والمرة الثانية كانت عندما تجلت هزيمة المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي في حرب الخليج الثانية التي اندلعت على أعتاب الانتقال من الحرب الباردة إلى العالم الأحادي القطب، في أول محاكمة بالنار للنظام الجديد.
وعلينا أن نراقب الصورة الأكبر التي كشفت عنها الحرب في غزة. كل الأطراف والفاعلين يقومون بتقييماتهم ويعيدون تقييم المواقف والاصطفافات على ضوء ذلك.
ولا ينبغي للتدفق المستمر للصور من غزة، التي تصور مشاهد الموت والدمار والفظائع، أن يحجب الرؤية الأوسع بأي حال من الأحوال، لأن الحرب لا تزال بعيدة كل البعد عن خط النهاية.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع المغرب العربي الإخباري بل تعبر عن رأي كاتبها حصرياً.