-محمود الشربيني-كاتب سياسي مصري
-عودته إلى المشهد الليبي لم تشكل صدمة كبيرة في البلاد، لكونه جاء بعد تراكم المؤشرات على عودته في الأشهر السابقة.
بعد اختفاءٍ لقرابة 10 سنوات عن المشهد الليبي، ظهر سيف الإسلام القذافي فجأة من خلال حوار أجرته معه صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بشكل لافت جداً للانتباه، عبر صورتين يتيمتين قامت بنشرهما.
بدا أكبر سناً، وكست وجهه لحية كثيفة غزاها الشيب. كان إبهام يده اليمنى وسبابته مبتورين إثر الغارات التي شُنَّت عقب أحداث العام 2011، وبدا مظهره غير مألوف، كمشهد مقتطع من فيلم سينمائي. تجلّى هذا المشهد الهوليوودي في ارتدائه عباءة سوداء تزيّنها أهداب ذهبية ووشاح ملفوف بشكل مهندم على رأسه، حتى وصفه الصحافي الأميركي بأنه ورث أبيه بشكله المتكلف، ووضع عنواناً عريضاً له: “سيف القذافي من أسير إلى أمير منتظر”.
أبرز ما جاء في حواره الصحافي الشهير
قال القذافي: “أنا رجل حرّ، وأرتب عودتي إلى الحياة السياسية”، وأضاف: “من اعتقلوني في الأمس، أصبحوا أصدقائي الآن، وتحرروا من وهم الثورة”. لحسن حظه أنه وقع أسيراً لدى قبيلة ذات توجه مستقل (الزنتان)، حتى إنها قامت بحمايته من الفصائل المتمردة الأخرى، وأحسنت معاملته، حتى انتهى الأمر الآن باتهام بلدان عربية ووسائل إعلام بأنها دفعت إلى الفوضى في ليبيا، وقامت بدعم جماعات مسلحة وشيطنة الوضع وإثارة الفتن. وقال سيف الإسلام: “إردوغان اتَّصل بي، ووصف ما حدث بأنّه مؤامرة خارجية تُحاك منذ زمن بعيد، وفوجئت لاحقاً بأنه يحاول إقناعي بمغادرة البلاد”.
لماذا ظهر القذافي في هذا التوقيت؟!
في إطار النظرة التحليلية للظرف الحالي، يبدو أن القذافي ظهر بخطوات محسوبة قبل إجراء الانتخابات بأشهر قليلة (كانون الأول/ديسمبر المقبل). إن عودته إلى المشهد الليبي لم تشكل صدمة كبيرة في البلاد، لكونه جاء بعد تراكم المؤشرات على عودته في الأشهر السابقة، والَّذي بدا عملاً مقصوداً ومحسوباً بدقة، إذ دأب المقربون منه طيلة الأشهر الأربعة الماضية على تسريب بعض الأخبار عنه وتأكيد وجوده في ليبيا بعد صمت طويل على شائعات موته وتصفيته.
ظهر سيف الإسلام لسببين رئيسيين:
– إثبات أنه حر ولم يكن تحت الإقامة الجبرية، كما يشاع، والتأكيد أنه على قيد الحياة.
– طمأنة مناصريه وحثهم على تسجيل أنفسهم في سجلات الناخبين، في إشارة واضحة إلى إمكانية ترشحه لمنصب الرئيس.
سياق المرحلة
ظهر سيف الإسلام القذافي بعد 10 أعوام على سقوط نظام والده، في واقع معقّد غاب عنه الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي، فليبيا الآن بلد منقسم ومشرذم بين شرق يسيطر عليه اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وغرب تتقاسم السيطرة عليه كتائب مسلّحة، أقواها كتائب مصراتة، وأبرز قادتها فتحي باشاغا، وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق.
يطرح سيف الإسلام القذافي نفسه كخيار ثالث لتوحيد البلاد التي مزقتها الحرب الأهلية وانهار اقتصادها، رغم امتلاكها أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا. بالتأكيد، إنّ صعوده يهدّد وجود حفتر، وسيسحب البساط من تحت أقدامه، وهو الذي تحالف منذ نهاية 2014 مع قادة الكتائب الأمنية التابعة لنظام القذافي، واستوعب أكبر قدر من عناصرهم في صفوفه، بتوجيهات من السّلطات الأمنية في مصر، وخصوصاً بعد تصريح سيف الإسلام نفسه بأنَّ 80% من المقاتلين في صفوف الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر من أنصاره.
هل يصبح القذافي رئيساً؟
حالة الثقة التي عبّر عنها سيف الإسلام في حواره وجدت صداها لدى قطاع عريض من القبائل والمدن الليبية، التي ما تزال تدين بالولاء لعهد القذافي. ومن الملاحظ أن معظم الليبيين يؤيدون عودته لإنقاذ ليبيا من براثن الفساد وتغول التيارات المتطرفة والميليشيات المسلحة، بعدما أذاقهم هؤلاء الأمرّين على مدى عقد كامل من المعاناة الاقتصادية والاجتماعية والتسيّب الأمني الكارثي.
وعلى الرغم من قبول سيف الإسلام شعبياً بشكل كبير في الشارع الليبي، مستفيداً في ذلك من الفراغ الواقع في المشهد السياسي الليبي، فإنَّ وصوله إلى الحكم مرهون بإعادة ترتيبات قواعد اللعبة في الداخل والخارج، فهو يملك غطاء سياسياً في الداخل، معتمداً في ذلك على إرث أبيه ودعم قبائل “الحزام الأخضر” الأكثر عدداً وتأثيراً في الغرب الليبي، فضلاً عن أن معظم مكونات الجيش الوطني في الشرق يدينون له بالولاء.
أما من ناحية الغطاء الدولي، فإنَّ الكثير من الأطراف يرى في سيف الإسلام سبيلاً لعودة علاقات الأمس، ويراهن على دور أكبر في حال وصوله إلى الحكم، وأبرزها روسيا، إذ تخلت موسكو عن دورها المتأرجح في ليبيا، وراحت قبل 4 سنوات تفتح قنوات اتصال مع نجل القذافي (الأسير)، وهي تدفع بقوة إلى إعادته إلى المشهد السياسي، وهو ما أكَّده ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في تصريح قال فيه: “ينبغي أن يؤدي سيف دوراً في المشهد السياسي الليبي، من قبيل عدم عزل أحد أو إقصائه عن أداء دور سياسي بنّاء”.
الموقف القانوني من ترشّح القذافي
لا يبدو أنَّ هناك أي عوائق قد تمنع سيف الإسلام من الترشّح حتى الآن، إلا إذا تضمَّن قانون الانتخابات المنتظر إصداره قريباً نصّ حرمانه من الترشح وإقصائه لأسباب سياسية، وهو أمر مستبعد، تجنباً لأيِّ جدل قد يحدث، في حين أنَّ الجنائية الدولية كانت قد أصدرت وثيقة اعتقاله في العام 2011، بذريعة ارتكابه جرائم حرب، ولم توقع ليبيا على الوثيقة، وخصوصاً أنَّ مذكرة محكمة الجنايات الدولية قائمة على اتهام بارتكاب جرائم حرب مبنيّ على دوافع ظنّية وتحركها دوافع سياسية.
وللعلم، في السابق، في نهاية تموز/يوليو 2015، قضت محكمة استئناف طرابلس (دائرة الجنايات) في وسط العاصمة بإعدام سيف الإسلام و8 من المقربين من النظام السابق رمياً بالرصاص، ولكن تمَّ الإفراج عنه في مدينة الزنتان في 11 حزيران/يونيو 2017.
وقالت قبائل الزنتان حينذاك إنَّها أطلقت سراحه بناءً على طلب من حكومة عبد الله الثني المؤقتة في شرق البلاد، ولأن القانون الملزم في ما يخص الترشح هو القانون الليبي نفسه المستند إلى الأحكام القضائية، فلا داعي للنظر إلى مذكّرة الجنائية الدّوليّة ما دام ليست هناك أحكام سارية في حقه.
المشهد الليبي برمّته مرهون حالياً بمدى ما تنجزه خارطة الطريق، فهناك حوار وطني برعاية أممية ستحدد مخرجاته شكل ليبيا الجديدة، وهناك من يمثلون سيف الإسلام في هذا الحوار بشكل معلن، في حين تسابق البعثة الأممية لدى ليبيا الزمن لدفع الفرقاء السياسيين إلى استثمار الفرصة الأخيرة لإنجاز القاعدة الدستورية التي ستجرى على أساسها الانتخابات الرئاسية والنيابية المرتقبة يوم 24 كانون الأول/ديسمبر المقبل، لكن منذ الإعلان عن انتخاب السلطة التنفيذية في اجتماعات جنيف قبل 6 أشهر، لم يطرأ للأسف أي جديد يدلّ على الوصول إلى نقطة توافق.
لا شكَّ في أن ظهور سيف الإسلام أحدث ارتباكاً في المشهد السياسي الليبي، وخلط الكثير من الأوراق؛ ففي حال تمكَّن الفرقاء السياسيون من الانتهاء من إعداد قانون للانتخاب، بما يسمح لنجل القذافي بالترشح، فستكون ليبيا أمام مرحلة ملتهبة ومعركة حامية…ولو فشل القذافي فيها، فإنه سيكون رقماً صعباً في الآتي من الأيام.