موقع المغرب العربي الإخباري :
ما زالت قضية إصدار مذكّرات الاعتقال ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانط، تستحوِذ كليًّا على الأجندة في دولة الاحتلال، وتمكّنت هذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ إسرائيل من إعادة اللحمة بين الصهاينة في الدولة العبريّة وخارجها، خصوصًا وأنّ العديد من الخبراء والمُختّصين والمُحلِّلين والساسة لجأوا، كالعادة، إلى تجيير معاداة الساميّة للمسّ بمحكمة الجنايات الدوليّة لاتخاذها هذا القرار، ناهيك عن مزاعمهم بأنّ القرار كان سياسيًا بامتياز، كما قال نائب المُدعي العّام السابق الإسرائيليّ، المحامي ران نيزي، الذي أضاف أنّ المحكمة تعمل بنسبة 90 بالمائة بالسياسة، أمّا الـ 10 بالمائة المُتبقيّة فهي مخصصة للقانون والقضاء، طبقًا لأقواله.
وعلى الرغم من التهويل الإسرائيليّ من تبعات وتداعيات وإسقاطات هذا القرار تكتيكيًا وإستراتيجيًا على الكيان المجذوم، نعتقد أنّه يتحتَّم علينا التروّي بإصدار الأحكام، فها هو عجوز أمريكا، رأس الأفعى، جو بايدن، يصِف مذكّرات الاعتقال بألفاظٍ بذيئةٍ جدًا، وهو بذلك يُطلق الشرارة الأولى لتوابع واشنطن باتخاذ المواقف المُناهضة لهذا القرار، وغنيٌّ عن القول إنّه لو كان العدل في هذه الدنيا قائمًا لتمّ اعتقال بايدن، الذي يسير عاره عاريًا، كمتهمٍ بارتكاب جرائم حربٍ، لأنّه هو الذي أمر بتزويد الكيان بالأسلحة لذبح الفلسطينيين في قطاع غزّة، وما زال يمُدّهم بالمبالغ الطائلة والأسلحة الفتاكّة.
***
وبعد هذه المُقدّمة، وَجَبَ التذكير بأنّ دولة الاحتلال، هي الدولة المارقة بامتيازٍ، فلم تُنفِّذ عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدوليّ وفي مقدّمتها القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين، والقرار 194 الذي يأمر بإعادة جميع اللاجئين الذين شُرّدوا في النكبة المشؤومة عام 1948 إلى ديارهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ حقّ العودة لا يسقط بالتقادم، وها قد مضى على النكبة 76 عامًا والوضع الفلسطينيّ يذهب من سيءٍ إلى أسوأ، بغضّ النظر عن الأسباب الداخليّة والخارجيّة، التي لا يتسّع المكان هنا لسبر غورها.
***
نتنياهو، كان وما زال وسيبقى على استعدادٍ للتضحية حتى بإسرائيل من أجل مصالحة الشخصيّة، أيْ البقاء في منصبه لأطول فترةٍ ممكنةٍ، والتخلّص من لوائح الاتهام المُقدّمة ضدّه بالمحكمة المركزيّة بالقدس بتهم خيانة الأمانة، وتلّقي الرشاوى، النصب والاحتيال، وإدانته بإحدى التهم، ستُرسله للـ “النقاهة” فيمما تبقّى له من الحياة بسجنٍ إسرائيليٍّ. الرجل يُطيل أمد الحرب لهذا السبب، ويُفشِل صفقات تبادل الأسرى لأنّه يعلم يقينًا بأنّ إبرامها سيؤدّي لوقف الحرب، وهو يدري من حيثُ يدري أنّه بصفته (الكذّاب ابن الكذّاب) بأنّ شعار (النصر المُطلق)، الذي اخترعه لا يتعدّى كونه سرابًا ووهمًا من المُستحيل تحقيقهما.
***
نقول، ولا نفصِل، إنّ مذكرّة الاعتقال الدوليّة ضدّه هي بمثابة طوق نجاةٍ له، فالأغلبية الساحقة من الإسرائيليين اليهود تؤيَّد العدوان الهمجيّ والبربريّ ضدّ قطاع غزّة، لأنّهم يعتقدون بأنّ هذه الحرب هي أصدق وأعدل حرب خاضتها دولة الاحتلال، ومع إصدار أوامر الاعتقال، لم يبقَ لنتنياهو ما يخسره، لذا لا يستغربنّ أحدٌ إذا قرر هذا السياسيّ النرجسيّ إصدار الأوامر لجيشه بارتكاب مجازر أفظع من التي ارتُكبت حتى الآن، وبالإضافة إلى ذلك، تقديم نفسه أمام الصهاينة بأنّه (دافيد) الذي تحدّى (جولييت) وتغلّب عليه، فالرجل ناكرٌ للجميل ويتطاول على العجوز بايدن دون أنْ يرِّف له رمشًا، ويؤكِّد بخطاباته الديماغوجيّة بأنّ الكيان سيُواصِل الحرب حتى ولو بقي وحده.
***
وبعد تقديم نفسه بطلاً عالميًا، سيلجأ، بحسب الإستراتيجيّة التي تُستشّف من تصريحاته، لعرض نفسه كضحيةٍ، أوْ كقربانٍ يُقدَّم على المذبح، وبذلك سينال التأييد الأوسع من الذي يحظى به الآن في صفوف الصهاينة، وعمليًا سيحصل على الضوء الأخضر لمواصلة العدوان ضدّ غزّة لفترةٍ لا يعرفها إلّا الله سبحانه وتعالى. بكلماتٍ أخرى، فإنّ قرار المدعي العام بالمحكمة الدوليّة، كريم خان، هو أكبر هديّةً لنتنياهو في المهنة التي يُجيدها بشكلٍ ممتازٍ وبحسبها يتخّذ أوْ لا يتخِّذ القرارات، ووفق الإستراتيجيّة: البقاء السياسيّ الشخصيّ.
***
بناءً على ما تقدّم، فإنّه سيكون من السهل جدًا على نتنياهو إقناع الجمهور بأنّ المحكمة الدوليّة في لاهاي تتهّم جميع الإسرائيليين بالتهم المنسوبة إليه، وأنّ العالم برّمته يقِف ضدّ الإسرائيليين من منطلقات معاداة الساميّة، وأنّ الحديث يدور عن عالمٌ لا يُفرَّق بين نتنياهو وقائد (حماس) في غزّة، يحيى السنوار، ولذا فإنّ الصهاينة في دولة الاحتلال باتوا لقمةً سائغةً أمام نتنياهو للتعبير عن تأييدهم له، لأنّه بسببهم ومن أجلهم يتحمّل المُعاناة.
***
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ نتنياهو سيستثمر الإجماع لدى جميع الأحزاب الصهيونيّة، التي هاجمت وبشدّةٍ غيرُ مسبوقةٍ قرار المدّعي العام خان ليقول إنّ جميع رؤساء الأحزاب يقِفون إلى جانبه لمنع العالم من إسرائيل بالدفاع عن نفسها، وهذا المنطق كافٍ لتأليب الرأي العام الإسرائيليّ ضدّ العالم وضدّ محكمة لاهاي، وبما أنّ نتنياهو هو الدولة، والدولة هي نتنياهو، فإنّه عندما يخوض حربًا شرعيّةً للدفاع عن أمن إسرائيل، فإنّه يخوضها باسم جميع الصهاينة.
***
وفي الخلاصة نقول إنّ أخطر شيءٍ يُمكِن أنْ يفعله نتنياهو، عقب إصدار أوامر الاعتقال، وهو الذي يخدِم إستراتيجيّته العليا، سيتمثّل في عزل الإسرائيليين عن العالم، وهذه الخطوة ستُسهِّل عليه إقناعهم بأنّ أوروبا لا تنتظرهم، وتُصبِح مهمة فرض الحكم العسكريّ على قطاع غزّة مهمّةً صغيرةً، بالإضافة إلى تجديد الاستيطان اليهوديّ في قطاع غزّة، الذي سيكون مصحوبًا بتهجير أهاليها الفلسطينيين، وعزل ونبذ الكيان المنبوذ أصلاً.
ملاحظة: المقال أعلاه هو محاولةٌ مُتواضعةٌ لقراءة الحاضِر ومُساهمة لاستشراف المُستقبل.
كاتب ومُحلِّل سياسيُّ عربيٌّ من بلدة ترشيحا، شمال فلسطين
انسخ الرابط :
Copied