موقع المغرب العربي الإخباري :
يحلو لمنتمي “الرويبضة” الخروج علينا بتعبيرات ساخرة تتهم المثقف العربي بل والعرب بشكل عام بأننا تمجد الأشخاص على حساب المؤسسات، ونؤله الطغاة على حساب الشعوب، وأولئك ينتمون إلى تجمعات إيديولوجية أو ديموغرافية لم يكن لديها، في مراحل معينة، ما يمكن أن تعتز به، قيادات أو برامج أو أهدافا.
ولعل أبلغ ما قيل ما جاء بقلم الدكتور جمال ليساوي من أنها جماعة “لا تملك القدرة والملكة للقراءة وفهم واقعها أولا ومحيطها الإقليمي والدولي ثانيا، وتبعا لذلك، فإنها توجه سهام النقد والهجوم والتجريح والقذف باتجاه كل من يرغب في تحريرها وتحسين ظروف عيشها وتكريم أدميتها، وسلوكها يذكر بالعبارة الشائعة” توَدّ العاهرة لو كل النساء عاهرات” لأن الشرف والطهر الذي هو القاعدة في النساء و الرجال، يذكر “العاهرة” بنقصها وخبثها وضعفها وعجزها في اختيار حياة نظيفة وسليمة، بدل الارتماء في أحضان الرذيلة والخبث”..
ولأن الآخر هو القدوة بالنسبة لأولئك، فلا مانع من تذكيرهم بأن اسم “روما” يرتبط بيوليوس قيصر والحديث عن بريطانيا لا ينسى ذكر ” تشرشل” وتناول التاريخ الأمريكي يسجل دور “واشنطون” وتذكّر الصين أو الفيتنام او أندونيسيا أو روسيا يسترجع آليا ذِكر ماو تسي تونج وهوشي منه وسوكارنو ولينين ..الخ الخ.
ولا يستطيع أي مواطن عربي يتناول التاريخ العربي والإسلامي أن يتناسى أن نضال الجنوب، لدى كل من يملك حدًا أدنى من الوعي وفتاتا من الذاكرة، يرتبط، وبغض النظر عن الأخطاء البشرية والعثرات، بقيادات وطنية من أمثال جمال عبد الناصر وعلي ذو الفقار بوتو ومحمد الخامس وفيصل بن عبد العزيز وأحمد بن بله وهواري بو مدين ومصطفى كامل وعبد القادر الحسيني وسلطان الأطرش، وقبلهم الأمير عبد القادر وعمر المختار وأحمد عرابي، وقبلهم صلاح الدين …والقائمة طويلة ومجال الجريدة محدود.
لكن الاسم الذي لا يمكن لمواطن عربي واعٍ ونزيه أن يتناساه عند كلّ 28 سبتمبر هو اسم عبد الناصر، والذي يرتبط اسمه، بحكم رفقة النضال، مع فيصل وبو مدين وآخرين.
ويكفي أن نتخيل وضعية الوطن العربي والعالم الإسلامي لو بقي هؤلاء الثلاثة على قيد الحياة، وسواء أحببناهم وبعض رفاقهم أم كرهناهم، فلا يمكن لعاقل أن ينكر أن الأمور لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، بعد أن تحالفت قوى الشر لتتخلص من قيادات أعطت للمنطقة وجودها المؤثر خلال سنوات وسنوات.
وهكذا تأكدت مقولة عبد الحميد مهري بأن “هذا زمن الرداءة، وللرداءة أهلها” الذين يبرزون اليوم على سطح الأحداث كما تطفو الجثث فوق مياه الفيضانات، وينتقمون، بشكل مباشر أو غير مباشر، من ذكرى من كانوا يوما أمامه مثل القطط المبللة.
وأتذكر هنا أنني كنت مرافقا للرئيس بو مدين خلال زيارة لبلد معين هو اليوم في الجانب المعاكس للشموخ العربي، أن قياديا في ذلك البلد كان يتابع حديث الرئيس برأس منحنٍ ونظرات جانبية ذليلة، وهو ما يُفسّر اليوم زاوية 180° التي انحرف بها البلد المُشار له عندما غابت الأسْد فاستأسدت الضباع.
ولعل هذا ما يُذكّرُ بكل ما تردد عن الظروف التي انتقل فيها قادة إلى رحاب الله، بحيث لا يجرؤ كثيرون، وأنا من بينهم، على القسَم بأن الوفاة كانت طبيعية.
ولأن الكرام يحتفلون هذا الأسبوع بذكرى وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970 رأيت ضرورة وقفة سريعة أمام لمحة عن الرجل الذي تأكد أنه كان الهاجس الأولُ والأكبر للكيان الصهيوني ومن يدعمونه، والذين يرقصون اليوم في ظل النجمة السداسية.
وأستذكر هزيمة يونيو 1967، التي يحلو للضباع التغني بأنها النقطة السوداء في مسيرته، ربما لأنها كانت موجهة أساسا ضد الطموح العربي للتحرر والتفوق والامتياز، وهو ما كان ناصر من أبرز من يجسدونه.
ولقد قلت في الحديث السابق إن أسوأ ما في الهزيمة أنها كان يمكن أن تكون انتصارا عربيا صاعقا لو جسّدتْ قيادة القوات المسلحة ومخابراتها آنذاك على أرض الواقع كلمات المشير عامر…”برقبتي يا ريّسْ”.
لكن النكسة، واختيار الكلمة كان موفقا من كاتب خطاب التنحي الذي ألقاء الرئيس المصري يوم 9 يونيو، حيث أن القوات العربية، على حد تعبير الرئيس بو مدين، لم تُهزم، لأنها أصلا لم تُعْطَ الفرصة لتحارب.
ما حدث كان أساسا قصورا وتقصيرا مخابراتيا عجزت فيه المؤسسة المكلفة بالاستطلاع عن دراسة الواقع المتوتر إثر إعلان ناصر إغلاق مضيق تيران، وبالتالي فإن ما حدث كان، بتعبيره الهاتفي لبو مدين، “سكتة قلبية”… لا يتحمل رجال القوات المسلحة المصرية ولا الشعب المصري مسؤوليتها، وهي لم تهزم إرادة الشعب وقياداته بدليل كل ما تم إنجازه بعد ذلك.
وقد أتطرف بالقول بأنني لا أعتبر ناصر مسؤولا عن الهزيمة إلا من منطلق أن رئيس الدولة هو المسؤول الأول عن كل ما يصيب بلاده.
كانت الشرارة التي أشعلت نار الحرب هي إغلاق مضيق “تيران” إثر مزاعم الهجوم الصهيوني على دمشق، وهنا أتوقف لحظات عند أمرٍ يتعلق بجزيرتي تيران وصنافير، التي اتفق مؤخرا على سعوديتها.
وليس من حقي أن أدخل في تفاصيل تهم البلدين الشقيقين، لكنني، ولأن الحديث هو عن شرارة المعركة، أُذكّرُ بأن اعتبار الجزيرتين أرضا مصرية يجعل من مضيق تيران ممرا بحريا مصريا، من حق مصر أن تغلقه إذا رأت خطرا يهددها، أما إذا كانت الجزيرتان سعوديتين فإن المضيق يُعتبر ممرا مائيا دوليا، وبالتالي فإن إغلاقه يُجرّم الرئيس المصري ويضعه في موقف المعتدي على المياه الدولية، وقد يبرر عدوان الكيان وأنصاره بعد ذلك.
وللتذكير، كان ناصر قد حذر القادة العسكريين في مايو من أن مصر ستشهد هجوما مباغتا في أيام قريبة، وكان ذلك على أساس معلومات تلقاها من مصادر متعددة، من بينها الملك حسين، الذي أكد ذلك لي شخصيا خلال زيارته للجزائر في بداية الثمانينيات.
ولسبب ما، فإن كاتب خطاب التنحي، وأظنه الأستاذ هيكل، تفادى الإشارة إلى مسؤولية القيادات العسكرية العليا ما فيما حدث، وهو ما كنت توقفت عنده بنقد مزعج في مقال مُطول نشر في الصحافة الجزائرية آنذاك.
وأعطى ذلك التجاهل لبعض الأفواه فرصة تحميل الرئيس المصري مسؤولية الهزيمة بالإدعاء أنه رفض اقتراح المبادرة بالهجوم الاستباقي، وهو رفضٌ أعتبره موقفا عقلانيا ذكيا لقائد متمرس يعرف أن نجاح الهجوم يتطلب أمرين، أولهما أن تكون القوة المهاجِمة (بكسر الجيم) ثلاثة أضعاف القوة المهاجَمة (بفتح الجيم)، وثانيهما الاطمئنان إلى تجنّب أي تعاطف دوليّ مع العدو، خصوصا وتحذير “دوغول” للبادئ بالهجوم كان واضحا، بالإضافة إلى رسالة ” جونسون” التي تضمنت نفس المعنى.
وعندما حدث ما حدث وعُرف أن ناصر سيتوجه بخطاب إلى الأمة سادَ شوارع الجزائر صمتُ القبور، واستمعت لخطاب التنحي من الإذاعة الجزائرية في مكتبي رفقة وزير الأوقاف آنذاك العربي سعدوني، الذي فاجأني بالزيارة.
ولأننا كنا نعيش الأحداث بكل جوارحنا في الأيام التي سبقت ما أسميته في مقالاتي “الأسبوع الأسود” فقد استمعنا للخطاب بالقلب والعقل معا.
وكانت المفاجأة الثانية أن خطاب التنحي، وبعد أن تفادى تحديد المسؤول العملياتي الأول عن الهزيمة، تلاعب بالصياغة، في محاولة رأيناها ساذجة لتبرئة الرئيس سياسيا.
فالخطاب يقول على لسان ناصر: (وبرغم أية عوامل “قد” أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة فإنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها. ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه، لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن “أعود” إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر). (هـ)
واستعمال حرف “قد” يُفيد التقليل من احتمال وقوع الفعل لأنه يُسبق الفعل المضارع “أكون”، وهو ما تستكمله الكلمات التالية التي تقول بأن الرئيس “على استعداد” لتحمل المسؤولية كلها، بدلا من أن يقول بشكل مباشرٍ إنه “يتحمل المسؤولية كلها”.
وأستطيع أن أزعم أن عبد الناصر، الذي كان يعيش لحظات حرجة وتحت ضغط نفسي رهيب، التزم بأداء النص كما كُتِب له، رغم أنه قد لا ينسجم مع رغبته في أن يتحمل وحده المسؤولية كلها.
ولعل التلاعب في كتابة النص يتجسد في وضع كلمة “أعود”، التي سبقت “صفوف الجماهير”، لأن عبد الناصر كان دائما جنديا يقوم بواجبه في الميدان العسكري ولم يسبق له العمل في صفوف الجماهير.
وبمجرد انتهاء الخطاب تناسينا مآخذنا اللغوية ونحن نسمع من نافذة المكتب زمجرة الآلاف من الجماهير الجزائرية التي انطلقت بمبادرات عفوية ترفض تنحي عبد الناصر، وراح العديد من الشباب يصرخون …”اثبت ومُتْ “.
ويصرخ بالفرنسية شباب لا يتقنون العربية NASSER, marche ou crève..
وإلى جانب الآلاف المؤلفة من أبناء الوطن العربي خرجت جموع الشعب المصري لتطالب الرئيس بالتزام موقعه القيادي، ووصل الأمر بأنها حاولت الاعتداء على من تصورت أنه زكريا محيي الدين، والذي كان يومها محمد فائق.
ولقد حاولت الضباع في مرحلة معينة الإيحاء بأن تظاهر الشعب المصري كان عملية مفبركة دبرها النظام، وهو ما كذّبه “يوسف شاهين” بتعليقات ذكية في فيلم “العصفور”، الذي أنتج بتمويل جزائري في السبعينيات.
هذا قليل من كثير كثير تثيره ذكرى الغائب الحاضر دائما.
ورحم الله الرجال ولا قرّت أعين الجبناء.
مفكر ووزير اعلام جزائري سابق
انسخ الرابط :
Copied