بالرغم من انحسار دورها الاستعماري المباشر خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا تزال فرنسا تعتمد إلى حدّ كبير على طبيعة دورها السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي في أفريقيا للحفاظ على تصنيفها ضمن دول العالم الكبرى.
وتأتي علاقات باريس الاقتصادية وارتباطاتها المالية بدول القارة الأفريقية، التي كانت مستعمرات فرنسية سابقة، في طليعة اهتمامات الدولة الأوروبية الكبرى، ولو جاء ذلك على حساب ما تروّج له دائماً من “دور سياسي داعم للديمقراطية والحرية” في سياساتها الخارجية، كعلاقاتها التاريخية بديكتاتور توغو، غناسينغبي إياديما وعائلته، أو علاقاتها الحالية بالسلطات الحاكمة في تشاد وبوركينا فاسو برغم الانقلابات العسكرية التي شهدتها.
“الكنز الأفريقي” في حديقة فرنسا الخلفية
تشكِّل قارة أفريقيا مصدراً كبيراً للموارد والخامات الطبيعية وسوقاً ضخمة للبضائع، إذ يتجاوز تعداد سكانها المليار نسمة، أكثر من 60% منهم من فئة الشباب بالمقارنة مع نحو 11% في أوروبا، بينما تعاني من ضعف في الإمكانات البشرية النوعية والكفاءات العلمية، بسبب السياسات الاستغلالية للاستعمار الأوروبي طيلة قرون، والتي استغلت اليد العاملة الأفريقية في الرقّ وأعمال السخرة في مزارع الكاكاو والمطاط وفي صيد الحيوانات من أجل العاج والجلود والأعمال المجهدة، ولم تستثمر في قطاعات التعليم وتطوير اليد العاملة.
كما تفتقر دول القارة للبنية التحتية الحديثة والخدمات المتقدمة، ما جعلها في نظر الشركات الأوروبية عموماً، والفرنسية خصوصاً، وجهة مهمة للاستثمار، لا سيما أنها تشتمل على إمكانات زراعية ضخمة مصحوبة بتربة خصبة وموارد مائية مهمة، وشواطئ دافئة ومفتوحة على جميع القارات، ومناخ متنوّع، كما تمتلك احتياطات ضخمة من الثروات والمعادن الاستراتيجية، أهمها “البوكسيت، والكروم، والكوبالت، والذهب، والماس، والمنغنيز، والفوسفات، والمعادن البلاتينية، والتيتانيوم، والفاناديوم” وغيرها، بالإضافة إلى النفط والغاز الطبيعي والأخشاب.
الفرنك الأفريقي: تركة الاستعمار
أقرت فرنسا “فرنك المستعمرات الأفريقية الفرنسية” في 26 ديسمبر/كانون الأول 1945، بعد مؤتمر النقد الدولي المعروف باتفاقية “بريتون وودز”، والذي عقد لتنظيم التعاملات المالية وعلاقات الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح العملة الموحدة لـ14 دولة أفريقية كانت 12 منها مستعمرات فرنسية، هي بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال وتوغو والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو والغابون وتشاد، بالإضافة إلى غينيا بيساو وغينيا الاستوائية، اللتين كانتا تابعتين للبرتغال وإسبانيا.
وقسمت فرنسا هذه الدول لاحقاً إلى مجموعتين نقديتين، هما الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA) ومركزه داكار في السنغال وتعتمد دوله الـ8 فرنك غرب أفريقيا، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا (CEMAC) ومركزها في بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، وتعتمد دولها الـ6 فرنك وسط أفريقيا، وقيمتهما متساوية وثابتة حالياً عند 652.21 فرنكاً أفريقياً لليورو الواحد، بعد أن كانتا مرتبطتين سابقاً بالفرنك الفرنسي، ولكن يمنع على الأفارقة استعمال إحدى العملتين في بلدان تعتمد العملة الأخرى.
وانسحبت مالي عام 1962 من مجموعة دول الفرنك، وأقرت عملتها الخاصة الفرنك المالي، كما انسحبت منها غينيا وموريتانيا ومدغشقر.
تثبيت سعر الفرنك الأفريقي وربطه باليورو
أتاح تثبيت سعر صرف الفرنك الأفريقي بالنسبة إلى اليورو، دعماً كبيراً للعملة الأوروبية أمام العملات العالمية، وهو يستند بشكل أساس إلى قرار سياسي فرنسي.
وعلى الرغم من تراجع اليورو أمام العملات الأخرى بشكل حاد مؤخراً، ولا سيما بعد الحرب في أوكرانيا والتصعيد الأوروبي مع روسيا، تستمرّ الدول الأوروبية اليوم بشراء الموارد الطبيعية والخامات والمنتوجات الأفريقية ودفع ثمنها باليورو بقيمة نقدية ثابتة من دون أي خسائر لها، مع العلم أنّ البلدان الأفريقية لو شاءت أن تشتري اليوم بالقيمة النقدية ذاتها بضائع بالدولار مثلاً، فإنّها ستكون خسرت نحو 20% من قيمة مواردها.
وهكذا، تتحمل أفريقيا تبعات الحرب وهي مضطرة إلى “دعم” النقد والاقتصاد في الاتحاد الأوروبي بسبب السياسات التي تربطها به، من دون أن يكون لهذه الدول أي علاقة أو استفادة، بل وحتى مع كون بعضها ينضم إلى الموقف الروسي أكثر من الموقف الأوروبي.
أوروبا تحارب التضخم بالفرنك الأفريقي
سهل الفرنك الأفريقي المرتبط باليورو التجارة مع أفريقيا، لا سيما بالنسبة إلى فرنسا، إذ شكّلت السياسات الأوروبية التي هدفت إلى الإبقاء على معدّل التضخم الاقتصادي منخفضاً، بشكل عام، مع رفع أسعار الفائدة، والمناورة على حافة الركود، سبباً في منع التضخم الاقتصادي في أفريقيا من النمو، لا سيما أنّ هاجس اتباع السياسات المالية والنقدية الأوروبية يسيطر دائماً على البنوك المركزية لدول المجموعة النقدية التي تعتمد الفرنك الأفريقي.
أدى هذا الأمر إلى أن تعتمد البنوك الأفريقية في الدول الفرنكوفونية سياسات “أجنبية” عن اقتصاداتها بدل أن تستثمر بقوة في تطوير اقتصاداتها المحلية، وضخّ أموالها في السوق.
وإذا كان مستوى الخدمات والتطور في فرنسا وبلدان أوروبا يسمح للبنوك بانتهاج سياسات نقدية حذرة جداً لمواجهة التضخم المالي حفاظاً على القدرة الشرائية للمواطنين، فإنّ الاقتصاد ومستوى الخدمات في بلدان أفريقيا لا يجاريان نظيريهما الأوروبيين، وما تحتاجه المجتمعات الأفريقية واقتصاداتها من استثمارات قوية، يصطدم بعائق الغلاء الفاحش الذي ينتج عن “قوة” العملة الأفريقية المرتبطة باليورو، والذي يشكل مفارقة كبيرة بين مستوى الخدمات والتطور في الدولة وقوة العملة والقدرة الشرائية للأفارقة.
الصادرات الأفريقية بين الامتيازات الفرنسية وضعف القدرة التنافسية
تستورد فرنسا الموارد والخامات الطبيعية من نفط وغاز ويورانيوم وماس وذهب ومعادن مرتبطة بالتصنيع المتقدم ومنتجات زراعية من الدول الفرنكوفونية، بما يقارب الـ30 مليار دولار سنوياً.
والجدير بالذكر أنّ فرنسا تصدّر إلى أفريقيا بضائع بأكثر من 30 مليار دولار سنوياً كذلك، اعتمدت في تصنيع وإنتاج معظمها على موارد وخامات مستوردة من القارة الأفريقية نفسها.
ويؤدي هذا الارتباط التجاري شبه الأحادي لهذه الدول بفرنسا إلى تأثر نموها الاقتصادي وميزانها التجاري بشكل حادّ بقرارات فرنسا المرتبطة بالاستيراد.
وبالإضافة إلى ذلك، تشكل العملة القوية لبلدان المجموعة النقدية الأفريقية عاملاً لإضعاف قدرتها التنافسية في تجارتها مع البلدان غير الأوروبية، التي تفضل الاعتماد على الاستيراد من بلدان عملاتها خاضعة لمعادلات السوق وترتفع وتنخفض مع تبدّل حالات السوق، بسبب إمكانية الاستفادة من هذه العوامل في التجارة، وخاصة في حال كانت عملات البلدان المصدرة “ضعيفة”.
فالعملة القوية ستؤدي إلى غلاء كلفة التصنيع والإنتاج والاستخراج بسبب ضرورة الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وستعني كلفة أكبر، وبالتالي قدرة منافسة أقل، وهذا يعدّ أحد أسباب ضعف الصناعات في أفريقيا واستمرار هذه البلاد في الاعتماد على تجارة المواد الخام.
فرنسا تحتفظ بـ50% من الاحتياطات النقدية الأفريقية.. وتطبعها
وفقاً للاتفاقية الموقعة بين فرنسا والبلدان الأفريقية، تحتفظ فرنسا اليوم بـ50% من الاحتياطات النقدية الأجنبية للدول الأفريقية الـ14، وهذا بالإضافة إلى ما يعنيه من تجميد فعلي لمبالغ بعشرات مليارات الدولارات في خزانة البنك المركزي الفرنسي يستبعد أن تقوم فرنسا بردّها إلى أصحابها.
وهذا يعني أيضاً، ارتهان هذه الدول اقتصادياً ونقدياً لخزانة دولة واحدة، وعدم قدرتها على القيام بتنويع مجدٍ لأماكن تخزين احتياطاتها الأجنبية، والذي يهدف بالمبدأ إلى تشكيل ضمان نقدي لهذه الدول يحافظ على قوة عملتها واقتصادها.
كما أنّ هذه الاحتياطات الملزمة، يتم الاحتفاظ بها بسعر فائدة منخفض عن أسعار الفوائد العالمية، إذ انخفض سعر الفائدة على الودائع في فرنسا من 8.5% عام 1982 إلى ما دون 0.8% اليوم.
كما تصدر المصارف المركزية الأفريقية، بحسب الاتفاقية، طلب طباعة العملات الورقية والمعدنية في إطار عقد يُبرم حصراً مع مصرف فرنسا المركزي، فيطبع بذلك مصرف فرنسا عملة فرنك المجموعة المالية الأفريقية الفرنسية منذ استحداثها في عام 1945.
ومؤخراً، اتهم وزراء إيطاليون فرنسا “باستخدام هذه الاحتياطيات وطباعة العملات الأفريقية لتعزيز أجنداتها الاستعمارية الجديدة، ما دفع الناس إلى الفرار من البلدان بسبب التنمية المحدودة”.
النخب السياسية والاقتصادية.. المستفيدون الحصريون في أفريقيا
أوجد الارتباط بين العملة الأفريقية والعملة الأوروبية قدرةً كبيرة على تهريب الأموال نحو أوروبا لدى النافذين والسياسيين والفاسدين في أفريقيا، والذين ينتمون إما إلى البلاد الأفريقية كالضباط والحكام والعائلات “الأرستقراطية” المرتبطة بالاستعمار السابق، وإمّا إلى فرنسا كرجل الأعمال الفرنسي الملياردير فانسان بولوريه، الذي اشتهرت محاكمته بتهم الفساد وتهريب الأموال عام 2018.
ويمكن لهذه النخب تهريب أموالها “الشرعية” خارج البلاد وتخزينها في البنوك الأوروبية، مستفيدين من ثبات سعر الصرف وقابلية تحويل وحرية تداول كبيرة.
وبالتالي الحفاظ على قيمتها من دون مخاطر، وتستفيد كذلك الشركات الأجنبية، التي تستغل العمالة الرخيصة للإنتاج بتكاليف أقل في دول أفريقيا، وترسل أرباحها إلى فرنسا والدول الأوروبية دونما استفادة حقيقية للبلدان الأفريقية.
وانطلاقاً من هذا العرض المختصر، يمكن فهم جانب من معالم صعود النزعة المعادية لأوروبا وفرنسا بين الشعوب الأفريقية اليوم، والتي بدأت تظهر بقوة مؤخراً في مالي وبعض دول الصحراء وجنوبي الصحراء الأفريقية. وأدّت أول ما أدت إليه إلى انقلاب عسكري في مالي السنة الفائتة، مدعوم شعبياً ويقوم على رفض وجود فرنسا العسكري ونفوذها في البلاد، في سابقة تبشّر بفقدان السيطرة الفرنسية على ما كانت تعدّه سابقاً “حديقتها الخلفية”.