العلاقة بين جنوب لبنان وجليل فلسطين عصية على الشرح والتفسير. الجنوب اللبناني والجليل الفلسطيني “توأم سيامي” لم تستطع حدود سايكس-بيكو فصلهما عن بعضهما بعضاً. انقطع التواصل البرّي وبقي التواصل الروحي. وما عاشه الأجداد واقعاً، ورثناه في الجينات وحكايا الجدات.
مساحة الجليل الجغرافية ممتدة بين فلسطين ولبنان. قبل سايكس-بيكو كان كثيرون من أبناء جبل عامل يعملون في عكا وحيفا ويافا وصفد، قبل أن يعرفوا صور وصيدا وبيروت. لقد استطاع اتفاق سايكس-بيكو أن يفصل الجغرافيا بالحدود بين البلدين: لبنان وفلسطين، ثم استطاع الاحتلال الإسرائيلي أن يقطع التواصل البري ويمنع التواصل الإنساني المباشر بين أبناء الجليل والجنوب، لكن العلاقة الروحية بين أبناء الشعبين لم تنقطع أبداً.
ومن تسميات جبل عامل جبل الجليل، أما بلدة قانا في الجنوب الشرقي لمدينة صور فهي قانا الجليل، وبحسب الشيخ سليمان الضاهر الذي يوصف بأنه الأكثر دقة في ترسيم حدود جبل عامل فقال: «مجموعة من هضاب وشعاب وأودية وبعض منبسطات، يحدها من الشمال مجرى نهر الفراديس (الأولي) ممتداً إلى الشرق بحيث يشمل جزين وما إليها، ومشغرة من أعمال البقاع الغربي ومنها يمتد إلى الجنوب منفصلاً عن حاصبيا وأعمالها شاملة مرجعيون وقراها المطلّة وأبل القمح ومنحسرة عن الحولة ممتدة إلى الجبال الغربية إلى محاذاة (الخيط) يفصلها عن صفد وطبرية الوادي المعروف بوادي القارة ثم تمتد إلى ما وراء (البصة) من ظواهر عكا، ويحدّها من الغرب البحر الرومي (المتوسط)، هذه الرقعة بهذا التحديد تُعرف بجبل عامل».
وليس عبثاً أن يُطلق على بلدة قانا في قضاء صور جنوبي لبنان اسم “قانا الجليل”، فيها قام السيد المسيح بأولى معجزاته حين حوّل الماء إلى خمر، وثمة إلى يومنا هذا شواهد تاريخيّة ومزار حيث كان عرس الجليل. وفيها ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرتين مهولتين في العامين 1996 و2006 راح ضحيتهما عشرات المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، وكأن قانا التي كانت شريكة الجليل في أولى المعجزات، تأبى إلا أن تكون شريكة في الدم الذي يُبذل على مذبح الحرية.
طبعاً غني عن القول كيف تقاسم الجنوبيون والفلسطينيون الذين لجأوا إلى لبنان الخبز والملح والنضال المشترك لأجل تحرير الأرض (رغم بعض المحطات المؤلمة والمؤسفة)، مثلما تقاسموا الدم والشهادة في مواجهة أعتى آلة حربية متوحشة خبرها اللبنانيون بفعل الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على مدن وقرى الجنوب منذ العام 1948 وصولاً إلى الاجتياح الأول في العام 1978 ثم الاجتياح الثاني والأوسع الذي وصل بيروت في العام 1982.
العلاقة بين لبنان وفلسطين تعمّدت بالدم، وهي مستمرة على اختلاف المراحل والتحديات منذ نشوء كيان الاحتلال وصولاً إلى “طوفان الأقصى” وما بعده، لكن يظل لعلاقة الجنوب والجليل مزاج خاص.
ولئن كان جلال الدين الرومي يُرجِع الشجن الذي يميِّزُ صوت الناي إلى حنينه الدائم إلى القصبة التي تم اقتلاعه منها. فما أشبه فلسطينيّ الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني في العام 1948 بالناي لجهة حنينهم الدائم إلى أشقائهم العرب، خصوصاً جيرانهم من أبناء جنوب لبنان، وهذا ما أشعره كلما التقيت أصدقاءً من هناك في هذه العاصمة العربية أو تلك، لا سيما في عمّان التي تشكّل لنا صلة وصل مع فلسطين الحبيبة.
هذه حالنا كلما التقينا معاً، جواد بولص وأنا. وجواد هو محامي الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والمدافع عنهم في المحاكم والمحافل المحلية والدولية، وقد عرفته من خلال شاعر فلسطين الكبير محمود درويش الذي أورثني صداقات جميلة ونبيلة، فضلاً عن إرثه الشعريّ العظيم.
كلما التقيت جواد أشتمّ فيه زعتر الجليل ويشتمّ فيَّ زيتون الجنوب، ويعلو صوت الشجن حنيناً، لا إلى ماضٍ مضى، بل إلى غدٍ سوف يأتي على أجنحة حرية تلوح من بعيدٍ يقترب.
مع جواد ومرسيل خليفة لا بد من محمود درويش الغائب الحاضر دائماً في قلوبنا وذاكراتنا وأحاديثنا المشوبة بالحنين.
هذه تحية إلى المحامي الصديق جواد بولص وأسرته الجميلة وأقربائه الطيبين، ومن خلاله إلى الجليل، وإلى فلسطين كل فلسطين:
أعتلي مئذنةَ الاشتياق وأنادي:(*)
يا جليل
يا حيَ على خير الأمل
يا كتف الجنوب
يا نسيم الروح في الريح
وما تبقّى من الأنبياء في الزيتون
يا جليل
أنجبتني جنوبيةٌ غالَبَتْ دهرَها
في قلبها اخضرَّت مراعي السماء
وبين يديها أشواكُ الصبر وانحناءة أيوب
علَّمتْها الأيامُ ما لم تعلم
هَبّ عليها ما يُشبِهُ المِسكَ الإلهي من ناحيةِ الكرمل
فأرضعتْني “حليبَ البلاد”
أورثتْني خفراً يواريه الرجالُ عادةً وضعفاً حيال الجليليات.
(…)
الجيمُ جليلُ الصاعدين “إلى حتفهم باسمين”
الجِّيمُ جنوبُ الصاعدين “إلى حتفهم باسمين” الجِّيمُ جبلان سماويان
الجيمُ جبلان سياميان
جليلٌ جنوبي جنوبٍ جليل
الجيم جملةٌ في جوف القلب:
أولُ البكاءِ دمعٌ
آخرُ البكاءِ قصيدة.
(*) مقاطع من قصيدة الشاعر “وشم الريح في الحجر”.