في آخر معارضه “من طرابلس إلى غزة.. ألف سلام”، تجلّى الفنان السوري صالح الهجر بمميزات عديدة تلخّص مسيرته الفنية الطويلة، وهو فنان خط عربي، وتشكيل، يعيش بين لبنان ودبي.
المعرض استضافته “جمعية العزم الثقافية – بيت الفن”، ضمن احتفالية “طرابلس عاصمة للثقافة العربية”، وتألّف المعرض من مجموعة من اللوحات الكبيرة التي اختار الفنان فيها الخط العربي كمفردة تشكيلية تجريدية قائمة بحد ذاتها.
ويرغب الهجر في التعبير عن ذاته بأنه اتخذ من الخط العربي مفردة تشكيلية عكس بها صورة الواقع بغض النظر عن اللغة المحكية. ومن أبرز مميزات المعرض أن يتضمن أكبر لوحة حروفية عرضت في لبنان، إذ تبلغ مساحتها 15 متراً مربعاً (5×3 م)، تتصدر باحة الموقع، خصّصها الهجر تحية لغزة.
ومن المميزات أيضاً طابع الحروفية التي لا يعتبرها الهجر تقديماً للخط العربي في إطار زخرفي تشكيلي، إنما تحويل الخط إلى حالة بصرية يمكن للفنان من خلالها التعبير عن الواقع، وبإمكان المشاهد ملاحظتها، لكن من دون الوصول إلى معنى محدّد، كآية قرآنية، أو قول مأثور، أو ما شابه.
في ثنايا المعاني التي يزخر المعرض بها، التفاعل الحضاري في سوريا، المنطقة الطبيعية الممتدة من العراق شرقاً، وحتى سواحل البحر المتوسط الشرقية غرباً، وأكثر ما يتضّح ذلك في روايات تضمنتها الأعمال التشكيلية مستوحاة من ملحمة جلجامش، ومن الروايات ارتدادات مشابهة في الساحل الغربي لسوريا، في المدن الفينيقية لآلاف السنين الماضية.
ومن خلال أعماله التشكيلية الحروفية، يعرّج الهجر على التفاعل الاجتماعي والثقافي لبلدان الشرق الاوسط، ومصر، خصوصاً في العصر الحديث.
ويحاول الفنان السوري الخروج من الحرف العربي الوصفي إلى الحالة البصرية، ليتجاوز حدود اللغة والجغرافيا التي ينطق بها أصحابها، ويبرر ذلك لــ “الميادين الثقافية” بهدف أن “تكون اللغة البصرية تحاكي كل العالم، وتستطيع إيصال الرسائل من خلالها لما نريد للآخر بغض النظر عن لغته”.
ويضيف بأن مجمل الأعمال مستوحاة من الواقع، وفي مجموعة منها، تتصدر المعرض، هناك مجموعة أعمال تحاكي الأسطورة الجميلة لعشتار وغلغامش.
والرواية أنه حين كان جلجامش يصطدم بعشتار، التقى بأنكيدو (أدونيس)، الذي كان نداً له، والمعروف عن الأول أنه رجل شديد، وجبار، وقوي، وقد حاولت عشتار أن تكسره، فلم تستطع، وكان أنكيدو رجلاً قوياً، وندّاً لجلجامش، فحاولت عشتار أن تكسره به، فلم تستطع أيضاً لأنهما كانا متساويين في القوة، والذكاء، والعقل، والحكمة.
لاحقاً، بات جلجامش وأنكيدو أصدقاء، ورثا أنكيدو صديقه بأجمل العبارات حين توفي، ولم يكسره وهو حيّاً، إنما بعد موته.
ويفيد الهجر أن مرثية أنكيدو لجلجامش تحوّلت لأوبريت فنيّة لفنانين موسيقيين سوريين، وقُدِّمت في عدة مهرجانات باسم “رثاء أنكيدو”.
وخلال رحلة البحث عن الخلود، يقول الهجر إنه: “جسّد لوحة من هذ الاعمال التي تحاكي الخلود الذي كان جلجامش يبحث عنه، وفي الفترة التي كانت عشتار تتعامل معه بفوقية وتعالٍ، ذهب جلجامش إلى الجبال لمدة من الزمن، وصارع الوحوش، وقاتل ليفشّ غِلّه، إلى أن أتى انكيدو في ما بعد وأصبحا من الأصدقاء”.
رواية جلجامش وأنكيدو (أدونيس) وعشتار (عشتروت) تتردّد في جبيل الفينيقية، وقصة ادونيس ومقتله بمجابهة خنزير بري قرب مغارة أفقا، منبع نهر ابراهيم، وسيلان دمه في النهر متلوّناً بدمائه في الربيع، قصة معروفة في التراث الفينيقي، بينما راحت عشتروت تبحث عنه في البراري، فتخدشت قدماها، وسال الدم منهما، فتلونت الزهور، وتكوّنت الشقائق الحمراء.
تشير الرواية عبر معرض الهجر إلى التفاعل الثقافي والحضاري بين مناطق سوريا، مما يدل على أن شعوب هذه المنطقة كانت متواصلة، رغم بعد المسافات قياساً لوسائل النقل في ذلك التاريخ.
ومن بين الأعمال المستوحاة من ملحمة “جلجامش”، لوحة الفتلة المولوية، يوحي شكلها بالفتلة، وتنتصفها مستديرة كزوبعة مكتوبة بعبارات: “روحه روحي وروحي روحه” وفيها نزعة صوفية بارزة.
ومن الأعمال التي يعرضها الهجر لوحة أسماها “صعود المطر” مستوحاة من رواية محمد الماغوط، ولوحات من رسائل لبعض الشعراء والادباء العرب للبنان، منها قصيدة لأحمد شوقي، اختار الهجر منها بيتاً شعرياً مخاطباً لبنان، وفيه: “لبنان مجدك في المشارق أول، والأرض راضية وأنت سنام”. وقد وزعها الهجر حروفياً بطريقة فنية تعبيرية، لكن قراءتها صعبة.
ولطرابلس حصة من لوحات الهجر، مستوحاة من مناسبة مع الشاعر نزار قباني، جرت حادثتها 1961 في أمسية بيروتية حضرها طرابلسيون وسأله أحدهم بلكنة طرابلسية: “أيمتى بدك تجي لعنا”، فرد قباني: “طرابلس في هذه الأيام قارورة طيب فمن ذا الذي يرفض السكنى في قارورة الطيب”. وبعد هذا البيت، دُعي قباني لأمسية شعرية في نادي “الأي بي سي” في طرابلس.
ولعل أهم لوحة في المعرض، لوحة غزة (15 متراً مربعاً)، قدمت من خلالها الصورة البصرية التي تمر فيها غزة. ويعلق الهجر أن “غزة ذات الطابع السكاني الكثيف الأعلى في العالم، حوّلها المحتل إلى سجن كبير ولمحرقة هي الأكبر في العالم”.
في اللوحة، حاول الفنان السوري تقديم وتوثيق التاريخ والحدث الغزي، وفيها اسم “طوفان الاقصى”، وأعداد الشهداء 20 ألفاً في حينه، وصاروا اليوم نحو 40 الفاً.
لوحات حروفية أخرى بألوان زاهية حملت عناوين مثل: “حدود الفرح والذكرى”، و”جدار من مدينة الأولياء”، و”كوكب الحروف”، و”بين هنا وهناك”، و”أضواء المدينة”.
يذكر أن للهجر 15 معرضاً إفرادياً، أولها في دمشق سنة 2001 بعنوان “بين الخط والشعر”، وجالت معارضه في مختلف المناطق السورية، وفي لبنان، وعواصم خليجية، وله مشاركات واسعة في العديد من المعارض الجامعة، واللقاءات والمنتديات الفنية التي نال في العديد منها جوائز تنويه، ومنها منحه الدكتوراه الفخرية من اتحاد منظمات الشرق الأوسط في فرنسا.