ينظر البعض إلى الفنّ والأدب باعتبارهما نوعاً من الترف أو الكماليات، غير مدرك للدور المحوري والجوهري الذي تمثِّله الفنون والآداب في حياة الشعوب، وفي تشكيل هوية الأمم والأوطان، وفي تقدّم المجتمعات وتطورها.
واللافت أن تلك النظرة المتخلفة إلى الفن والأدب تزداد حدّة في اللحظات الحرجة والأوقات العصيبة، وتغدو كتابة الشعر أو عزف الموسيقى وسواها من إنتاجات أدبية وفنية كأنها معصية أو خطيئة ينبغي تجنبها والابتعاد عنها، علماً أن العكس تماماً هو الصحيح.
في المقابل، أدركت قوى الاستعمار والهيمنة أهمية القوة الناعمة باكراً جداً، واستخدمتها بشكل فاعل في الترويج لسياساتها ومشاريعها. وإذ نقول القوة الناعمة، فهذا يعني أولاً الأدب والفن والإعلام والميديا بأشكالها وألوانها كافة.
المتابع مثلاً للحركة السينمائية العربية غير التجارية أو ما يسمّى السينما المستقلة، يلاحظ لدى مشاهدته مقدمة هذا الفيلم أو ذاك أن مؤسسةً دوليةً ما ساهمت في إنتاجه، كذلك الحال لدى مطالعة كُتيبات الكثير من المسرحيات الجادة أو المنشورات المرافقة لنشاطٍ ثقافي هنا وهناك، إذ تبادر مؤسسات غربية متنوعة إلى دعم أعمال ثقافية عربية عبر المساهمة في تمويلها وإنتاجها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وما لا تتولاه مؤسسات الخارج تتكفل به المراكز الثقافية المُلحَقة بالسفارات الأجنبية في بلادنا العربية.
تساءلت في مقالة سابقة عن سرّ الحرص الأجنبي على الإنتاج الثقافي العربي؟ سؤال تتبعه أسئلة لا تقلُّ عنه أهمية، مثل: هل ما يشغل بال تلك المؤسسات والمراكز حقاً هو ضعف النشاط المسرحي في بلادنا أو تعثر الحركة السينمائية أو قلّة الإقبال على القراءة والمطالعة؟ ولماذا تبادر مؤسسات وسفارات أجنبية إلى دعم ما ينبغي لحكوماتنا ووزاراتنا أن ترعاه وتدعمه وتموله من ألِفه حتى يائه؟
التمحيص في طبيعة الأعمال الإبداعية الممولة من الخارج يجعلنا نفهم بعضاً من الدوافع الكامنة وراء هذا الدعم الذي لا يترك للمبدع العربي حرية العمل، بل يضع شروطاً تحت مُسمَّى مواصفات، ويفرض بطريقة ذكية جداً وناعمة توجهات هذا الفيلم أو تلك المسرحية أو حتى مضامين بعض الأعمال الأدبية التي يكتبها مؤلفوها، تحت هاجس ترجمتها إلى اللغات الأخرى غير العربية أو نيل الجوائز العالمية، مهما كان الثمن، حتى لو كان الإقرار بـ”شرعية” الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين(!).
حين نكتب عن القوة الناعمة، تتبادر إلى الأذهان فوراً تلك الصورة النمطية المشوهة التي قدمتها هوليوود في أفلامها الشعبوية، إذ لا يظهر الإنسان العربي إلّا على هيئة ماجنٍ لا تحركه سوى غرائزه أو إرهابيٍّ لا همَّ له غير قتل الأبرياء، لكن الفارق بين المؤسسات الغربية الراعية والسينما الهوليوودية أن تلك المؤسسات لا تستطيع المجاهرة بتلك الصورة كما تجاهر هوليوود، بل تلجأ إلى طرق وأساليب ملتوية تحت ستار تشجيع الإنتاج الفني والأدبي، لكنه للأسف تشجيع مشروط يخضع لأجندات غير فنية أو أدبية.
المتابع من كثب يلاحظ أن معظم الأعمال الفنية الممولة من جهات غربية يركّز على قضايا معينة ويهمل قضايا أكثر أهمية أو يعتِّم عليها كلياً. يحضر مثلاً مجتمع “الحريم” وتعدد الزوجات وعلاقة العربي الملتبسة بالجسد و”التعايش” بين الضحية الفلسطينية وجلادها الإسرائيلي وسواه من عناوين تُمَرَّر عبرها رسائل يُراد غرسها في ذهن المتلقي العربي، بحيث لا يعود التطبيع مع المحتل مُستنكَراً ولا مرفوضاً، وتترسخ صورة العربي أمام نفسه وفي مرآة فكره كمتخلف لا همَّ له سوى غرائزه وعصبياته المنفلِتة من كل عقال، فيما يحضر الغربي، الأميركي خصوصاً، كمنقذ من الإرهاب والتطرف، وكأنه مسيح سلامٍ لا همَّ له سوى خلاص العالم، فيما الواقع على العكس تماماً، وهذا ما بدا جلياً مع العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ تناست الحكومات الغربية كل مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي بشّرتنا بها طوال عقود، معلنةً انحيازها الظالم والمُطلق إلى جانب الجلاد ضد الضحية.
ثمة أسئلة كثيرة تطرحها “السياسة الثقافية” (إذا جاز هذا التعبير) التي يتبعها الغرب في رعايته للإنتاج الفني والأدبي خارج حدوده، منها: لماذا تغيب كلياً عن الأعمال الممولة أجنبياً القضايا الجوهرية والملحَّة التي ساهمت في تخلف المجتمعات العربية ونكوصها إلى الوراء؟ لماذا لا يشغل بال مموِّلي السينما والمسرح سؤال حول فشل الدولة الوطنية في العالم العربي ومسؤولية الاستعمار الغربي عن تقسيم بلادنا وتجزئتها وتفتيتها المتواصل حتى الآن، ولا عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وقيام “دولة” الكيان الغاصب في قلب العربي والنتائج الكارثية المترتبة عليه؟
أما موضوع الإرهاب الذي صار أثيراً للسينما الأميركية أو لتلك الممولة غربياً، فإنه يُلصق حصراً بالعرب والمسلمين، ولا يتم تناوله إلا من زوايا محددة تغفل دور الغرب نفسه في استيلاد كثير من الحركات المتشددة ورعايته لها وتربيتها كالوحش الكاسر، مثلما يتم تغييب قضايا القمع السياسي والفكري والفقر والبطالة والفساد والأمية، لِيحضر عِوَضاً منها الجلد والرجم وقطع الأيدي وتعدد الزوجات وسواها من أمور استشراقية!
لا نمانع ولا نعارض مناقشة أي موضوع، مهما كان حساساً أو شائكاً، ونؤمن بأن دور الفن والأدب يكمن في معالجة القضايا الحساسة والشائكة، لكن لا نريد حصر مشكلاتنا بقضايا معينة، وتغييب قضايا أكثر أهمية وإلحاحاً، في مقدمتها مسؤولية الغرب نفسه عن كثير مما حلَّ ويحلُّ بنا من دون إعفاء أنفسنا من المسؤولية.
أليس لافتاً مثلاً غياب أي مفكر متنور أو رجل دين تقدّمي عن منابر الغرب الممتلئة بأخبار التكفيريين والغلاة؟ ألم يأتِنا معظم القتلة والذبِّيحة من مدن الغرب الذي حوَّل اللاجئين إليه إلى سجناء في غيتوات يعيش أهلها على هامش الحياة؟ لِمَ لا يتم طرح مثل هذه القضايا في وسائل إعلام الغرب أو في الأفلام والمسرحيات والكتب التي يموّلها؟
الحال البائسة في الإنتاج الإبداعي العربي المموَّل من مؤسسات غربية تتلاقى مع الفيتو الذي تضعه معظم (نقول معظم كي لا نظلم بعض المؤسسات والجهات النزيهة في منطلقاتها وأهدافها) المؤسسات والمراكز الغربية على أي عمل ملتزم حقاً بالقضايا العربية الملحَّة، فلا تتم ترجمة أي عمل أدبي إذا كان يتضمن دعوة أو تبشيراً بضرورة مقاومة الهيمنة والتسلط والطغيان الاستعماري القديم/الجديد، أو ينتصر لحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، أو يناهِض القمع والاستبداد من موقع تنويري تقدُّمي لا من موقع تكفيري متطرف متخلف، ولا تمنح الجوائز الأدبية والفنية الكبرى إلا بناءً على خلفيات سياسية، أو لِمَن يقدِّم فروض الطاعة والولاء للوبي الصهيوني المتحكِّم في مفاصل الدعاية والتسويق والإعلام في معظم أنحاء العالم.
كنّا في غنى عن كل التمويل الخارجي لو كانت الحكومات والوزارات المعنية والمؤسسات المختصة في بلادنا تقوم بواجبها وبما هو مطلوب منها، وتدرك ماهية القوة الناعمة، وتدعم الإنتاج الإبداعي العربي وترعاه، ولا تضع العصي في دواليبه، وتتركه حراً بلا قيود وخطوط حمر، ولا تسعى إلى تدجين المبدعين وترويضهم.
لا يظنَّن أحد أن المسرح والسينما الجادين ودور الأوبرا والأوركسترا في الغرب تسير من تلقاء نفسها. كل الفنون الجادة وغير التجارية تتلقى دعماً من الدولة. لذا، من واجب الحكومات والمؤسسات العربية، إذا كانت حقاً معنية بأحوال البلاد والعباد، أن تفهم أولاً أن الإبداع الأدبي والفني ليس ترفاً ولا من باب الكماليات، بل يقع في صلب عملية التنمية والنهوض، ولن تنهض أمة اقرأ ما لم تقرأ جيداً أهمية المعرفة والثقافة.
صحيح أننا نشهد اليوم ولادة إنسان معولم ذي ثقافة كونية، لكن هذه العولمة غير المسبوقة بالذات تدعونا إلى الحرص أكثر على ما يميزنا ويمنحنا خصوصيتنا، وهذا ما تفعله كل شعوب الأرض، ولكن من دون التقوقع والانغلاق، لأن التلاقح بين الثقافات أمر أكثر من ضروري، شرط أن يكون تلاقحاً ندياً، لا أن تطغى فيه ثقافة وتُطمَس أخرى.
حين نجلس إلى مائدة الأمم علينا تقديم الطبق الخاص بنا، وما مِن أمَّة في عالم اليوم إلا وتحرص على نتاجها الإبداعي وتفاخر به وتباهي الآخرين. بريطانيا العظمى تُوْصَف بأنها بلد شكسبير، وروسيا لا تنسى لحظة أنها وطن تولستوي وشولوخوف، أما ألمانيا فَتُطلِق اسم فيلسوفها غوته على مراكزها الثقافية في كل أنحاء العالم، فلماذا نرضى نحن أن تُطمَس ثقافتنا ويُنسَى رموزنا المبدعون، ولا يبقى منّا في أذهان الآخرين سوى “الحرملك”، وهو أصلاً ليس صناعة عربية، بل يمكن اعتباره “عملاً مُدبلَجاً” من التركية إلى العربية!
المؤسسات الثقافية الغربية الناشطة في بلادنا، والتمويل الأجنبي الذي يُمنح بسخاء لبعض المبدعين العرب، والجوائز المشروطة بتقديم شهادة حُسْن سلوك أدبي وثقافي، ما هي سوى قوة ناعمة تُضاف إلى أدوات القوة الأخرى التي تستخدمها الدول الكبرى والقوى العظمى المهيمنة لاستمرار تسلطها على الشعوب المغلوبة.
انطلاقاً من كلّ ما تقدّم، وإدراكاً لأهمية المرحلة الراهنة التي نعيشها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (معطوفة طبعاً على كل مراحل الصراع مع المحتل الإسرائيلي)، لا بد من الانتباه إلى أهمية الفنّ والأدب في هذه المواجهة الضارية وأهمية دورهما في مواجهة عمليات كيّ الوعي وتزييفه، فإذا كان الآن، ونحن في خضم المواجهة، يتم تزوير الكثير من الحقائق وتُقلب الوقائع رأساً على عقب، فما بالنا غداً أو بعده، حين يُكتَب التاريخ!
العالم يتغير، وشباب اليوم أكثر تفهماً لطبيعة قضايانا، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، وخير برهان على ذلك هبّة الجامعات الكبرى في العالم (التي أشرنا إليها في أكثر من مقالة هنا). لذا، علينا نحن أن نكتب روايتنا، لا أن نترك الآخرين يكتبونها على هواهم ووفق مصالحهم. وَمَن ذا الذي يكتب الرواية سوى أهل الفكر والفن والأدب؟ فهل تتاح لهؤلاء الظروف المناسبة كي يكتبوا بحرية ضرورية لكل مبدع؟ وهل يدرك صنّاع القرارات أن الفنّ والأدب متنٌ لا هامش، وضرورة لا بد منها ولا غنى عنها.