تُعرِّف اليونسكو التراث الثقافي غير المادي بأنه الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي تعترف بها المجتمعات والمجموعات والأفراد كجزء من تراثهم الثقافي. خلال أوقات الحرب والصراع، غالبًا ما يتعرض التراث الثقافي غير المادي عمدًا لأعمال السرقة أو الاستيلاء، مما يسلط الضوء على تعرض هذه القطع الأثرية لمجموعة من الدوافع والأفعال التدميرية.
أدت التوترات الأخيرة بين المغرب والجزائر إلى إشعال الخلافات حول أصول بعض العناصر الثقافية المغربية، بما في ذلك الشخصيات التاريخية (طارق بن زياد)، وعروض الفروسية (التبوريدة)، والأطباق وأطباق الطهي (الكسكس والطاجين)، والموسيقى والفولكلور (الكناوة والطاجين). ملحون)، واللباس (القفطان)، والهندسة المعمارية (الزليج: نمط من بلاط الفسيفساء المصنوع من قطع البلاط المنقوشة يدويًا بشكل فردي).
وقد اشتد هذا التوتر منذ أن تولى الرئيس تبون منصبه، مع تصاعد الاحتكاك الدبلوماسي بسرعة إلى حرب ثقافية، كما يتضح من المحاولات المتكررة من قبل المسؤولين ووسائل الإعلام الجزائرية للاستيلاء على التراث الثقافي المغربي.
ويبدو تصاعد التوتر بين المغرب والجزائر واضحا في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الجزائرية، حيث تتواصل منذ أشهر عدة خلافات بين المستخدمين حول أصول العناصر الثقافية المغربية. ومن الصعب تحديد الأسباب الدقيقة التي تدفع الجزائر إلى المطالبة بالتراث الثقافي المغربي باعتباره ملكا لها دون أي دليل تاريخي أو ثقافي. وقد تكون هذه التصرفات مدفوعة بالرغبة في تأكيد الهيمنة السياسية أو تقويض الهوية الثقافية للمملكة.
إن الدافع وراء استيلاء الجزائر على التراث الثقافي المغربي متعدد الأوجه ويمكن أن يعزى إلى عدة عوامل. وفي هذا السياق، نعتقد أن انخراط الجزائر في اكتساب جوانب مختلفة من الثقافة المغربية ينبع من الافتقار إلى هوية متميزة، ونقص في القدرات الإبداعية والخيالية، وتهيئة مناخ يتسم بالتوترات السياسية. إن تقاطع الموروثات الاستعمارية التاريخية، وتعقيدات الاستيلاء الثقافي، والسعي إلى الهوية الذاتية، يخلق وضعا معقدا يحدد سعي الجزائر الصعب نحو الاستصلاح الثقافي وسط جدل مضطرب حول الهوية.
نقص الهوية
قد تؤدي حالات نقص الإحساس بالهوية أو الانفصال عن الجذور الثقافية للفرد أحيانًا إلى دفع البلدان إلى عناصر مناسبة من الثقافات الأخرى، وتسعى جاهدة إلى إنشاء ما يشبه الانتماء. تتجلى مثل هذه الأحداث عندما يشعر الأفراد بالغربة عن تراثهم الثقافي أو الشك في أصولهم الثقافية. وفي مثل هذه الظروف، تلجأ الجزائر إلى استيعاب مكونات التراث الثقافي المغربي، وغالبا دون فهم شامل للدلالات المعقدة والأهمية المرتبطة بهذه العناصر.
وقد ساهم المسار التاريخي للجزائر، الذي اتسم بالتوغلات الأجنبية المتعاقبة، في علاقة معقدة مع الهوية الثقافية. والجدير بالذكر أن تاريخها يتخلله سلسلة من الغزوات والاستعباد من قبل قوى أجنبية مختلفة، بما في ذلك الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون والبرتغاليون والإسبان والأتراك والفرنسيون. ونتيجة لذلك، واجهت الجزائر التحدي المتمثل في تحديد خلفية ثقافية منفصلة ومتماسكة. وهذا يتناقض مع الوضع في المغرب، الدولة ذات السيادة ذات النسب الراسخ الذي يعود تاريخه إلى نهاية القرن السابع.
يضاف إلى الغزو المتكرر المؤهل الذي أعلنه إيمانويل ماكرون (الرئيس الفرنسي) في عام 2021 والذي أثار تأملًا عميقًا بين القيادة السياسية والعسكرية الجزائرية، مما أثار رد فعل شديدًا بسبب آثاره الملموسة على ثقافة البلاد وتاريخها. وأكد ماكرون صراحة أن “الأمة الجزائرية لم تكن موجودة قبل مجيء الاستعمار الفرنسي عام 1830”. إلا أن الجزائر فسرت هذا الإعلان على أنه إهانة لسيادتها الوطنية وعمل مدروس لطمس تراثها التاريخي الذي تشكل الثقافة مكونا أساسيا له. إن الاضطراب العميق الذي أثاره هذا الإعلان يفسر السبب الكامن وراء جشع الجزائر للاستيلاء على التراث الثقافي المغربي في محاولة لاختلاق ثقافة على حساب الثقافة المغربية الموجودة منذ 12 قرنا.
الافتقار إلى الإبداع والقدرة التخيلية
الإبداع والخيال ضروريان للنمو الثقافي للأمة. ولها تأثير كبير على كيفية تفكير الأفراد وتصرفاتهم وتفاعلهم مع بعضها البعض. قد يكون للافتقار إلى الإبداع والخيال عدد من التداعيات على التنمية الثقافية للأمة. وفي الحالة الجزائرية، يؤدي الافتقار إلى الأصالة وملكات الخيال إلى الاستيلاء على العناصر الثقافية من البلدان المجاورة، وخاصة المغرب، بدافع الرغبة في خلق الحداثة والابتكار.
لقد أثرت الغزوات والاستعمارات المتعاقبة تأثيرًا عميقًا على الإبداع والابتكار في الدول التي تم فتحها. غالبًا ما تتضمن العملية قمع الثقافات والعادات وأساليب الحياة المحلية. وفي حالة الجزائر، أدت الغزوات والاحتلالات المتكررة إلى فقدان المعارف والمهارات والممارسات التقليدية التي تعتبر ضرورية للإبداع والابتكار. وفي خضم الفترات التاريخية التي اتسمت بالهيمنة المتعاقبة للقوى الاستعمارية، واجه الشعب الجزائري تحديا عميقا ومعقدا – وهو تحدي تمييز وصياغة هوية ثقافية مميزة. نشأ هذا التحدي من انتشار وهيمنة القيم والأعراف وأنماط الحكم الأجنبية، التي لم تحل محل التقاليد الجزائرية بمرور الوقت فحسب، بل خلقت أيضًا إحساسًا واسع النطاق بالتنافر الثقافي بسبب الافتقار إلى القدرات الجوهرية لصياغة ثقافة جزائرية متميزة.
في الجزائر، تتم إدارة الاستيلاء على التراث الثقافي المغربي من قبل مؤسسات وأفراد، مدفوعين بسياسة البلاد، لشراء المواد الثقافية من التراث المغربي من أجل تعزيز هويتهم. وهذا يجبر الدولة على تخصيص العناصر الثقافية المغربية في التاريخ والهندسة المعمارية والملابس والموسيقى والمطبخ. ومع ذلك، فإن هذا الميل نحو الاستيلاء على العناصر الثقافية المغربية غالبًا ما ينحرف عن المجالات البناءة للتبادل الثقافي الهادف أو التقدير، ويتجلى بدلاً من ذلك في اكتساب العناصر الثقافية من المغرب دون إذن مناسب أو فهم عميق.
ولمواجهة أوجه القصور هذه، بذلت الجزائر جهودا منسقة، مستخدمة وسائلها الإعلامية وأجهزتها المؤسسية، من أجل الاستحواذ بقوة على مجموعة من العناصر الثقافية المغربية. وكان هذا المسعى يهدف إلى تعويض الفراغ الذي خلفه المحو الاستعماري وخلق ما يشبه الأصالة الثقافية. إن تبني التحف الثقافية المغربية، رغم أنه محاولة ظاهرية لملء الفراغ، يثير أيضًا أسئلة مثيرة للاهتمام حول مدى مرونة الهوية الثقافية الجزائرية المدفوعة بنقص الخيال والإبداع.
ونتيجة لذلك، فإن استيلاء الجزائر على التراث الثقافي المغربي بسبب الافتقار إلى الإبداع والابتكار لن يتوقف. ويمكن أن يعزى ذلك إلى طبيعة البلاد باعتبارها “دولة ريعية” تولد جزءًا كبيرًا من دخلها من موارد النفط والغاز وليس من الأنشطة المبتكرة والإنتاجية. ويؤدي هذا الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى نقص الاستثمار في العديد من القطاعات، بما في ذلك تلك التي تشجع الإبداع والابتكار.
ويؤدي هذا الوضع إلى إضعاف المؤسسات المحلية، بما في ذلك أنظمة التعليم والبحث، ويقلل من حوافز الأفراد والشركات على الابتكار وإنشاء صناعات جديدة، ويحد من الفرص المتاحة للناس لاستكشاف مختلف القطاعات. والأهم من ذلك، أن الجزائر تشهد “هجرة الأدمغة” حيث يهرب الأفراد الموهوبون والمهرة والمبدعون الذين كان من الممكن أن يساهموا في تقدم البلاد والابتكار، من البلاد بحثًا عن فرص أفضل.
التعدي السياسي
ومن الناحية السياسية، قد يستغل القادة الوضع لصالحهم، مستفيدين من المشاعر العامة لحشد الدعم أو تحويل الانتباه عن القضايا المحلية. ومن الجدير بالذكر أن حالات الاستيلاء الثقافي يمكن أن تتفاقم بسبب التوترات السياسية، والتي يمكن استخدامها كاستراتيجية لنزع الشرعية عن التراث الثقافي لبلد مستهدف أو تقويضه. تتكشف مثل هذه الديناميكيات عندما تحاول الجزائر تأكيد هيمنتها الثقافية على العناصر التي تنتمي إلى الثقافة المغربية وتعيد تجميعها على أنها خاصة بها. وتميل هذه التصرفات إلى إثارة موجة من النزعة القومية وإحساس عميق بالوحدة بين الشعب الجزائري. إن التعدي الملحوظ على التراث الثقافي هو بمثابة نقطة تجمع للأجندة السياسية الجزائرية، والهوية الجماعية، والتماسك بين سكانها خلف النظام السياسي العسكري. وفي الوقت نفسه، تغذي هذه الادعاءات تصاعد المشاعر المعادية للمغرب، وتلقي بظلالها على العلاقات الدبلوماسية وتعزز التصورات السلبية عن المغرب، الدولة المتهمة بـ “الاستيلاء الثقافي”. ومن خلال ذلك، تسعى الجزائر إلى طمس التميز والهوية الثقافية للمغرب، وبالتالي تعزيز هويتها الثقافية الخاصة.
وفي محاولة لإقامة روابط أعمق بين الجزائريين وتعزيز شعورهم بالانتماء إلى أمة تتميز بتاريخ مضطرب، ركز السياسيون على بناء رواية مبنية على التراث الثقافي للآخرين. منذ بدء الاحتجاجات السلمية “الحراك” عام 2019،وقد أبدت القيادة السياسية والعسكرية الإيرانية اهتماماً متزايداً بتقديم قضايا هامشية، مثل التوترات الحدودية بين المغرب والجزائر، لتعزيز الجبهة الداخلية التي تزعم أنها تتحد ضد “العدو الغربي” (المغرب). إحدى الأدوات المستخدمة لتحقيق ذلك هي الجبهة الثقافية. تسعى الجزائر جاهدة إلى غرس الاعتقاد لدى شعبها بأن المغرب لا يشكل “تهديدًا أمنيًا” فحسب، بل “يسرق تراثه الثقافي” أيضًا. ولتحقيق ذلك، أطلق النظام الجزائري عملية “سياسة خارجية تحويلية” تعتمد على اختلاق تهديدات خارجية. لقد استخدم النظام وسائل التنظيم والتلقين لتدجين وتحفيز وتحويل انتباه عامة الناس عن مشاكل الحياة الواقعية المتعلقة بالإمدادات الغذائية والسيولة المصرفية إلى الثقافة. تلعب وسائل الإعلام والرأي العام دورًا فعالًا في تشكيل الخطاب المحيط بادعاءات الاستيلاء الثقافي. على سبيل المثال، تعمل وسائل الإعلام الجزائرية على تضخيم المشاعر العامة، وتؤثر على الخطاب السياسي، بل وتؤثر حتى على القرارات السياسية.
تعزيز حماية التراث
يتمتع المغرب بتراث ثقافي غني ومتنوع، وله جذور تاريخية عميقة ومجموعة واسعة من الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعرفة والدراية. ومن أجل حماية هذا التراث من الاستيلاء من قبل بلدان أخرى، وخاصة الجزائر، يجب على المغرب تنفيذ استراتيجية شاملة لصون وتعزيز تراثه الثقافي. ويجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية مزيجًا من التعاون الدولي وجهود التوعية الوطنية والترويج الإعلامي لتراثها الثقافي.
ومن العناصر الأساسية لهذه الاستراتيجية التصديق على جميع اتفاقيات اليونسكو المتعلقة بالتراث، بما في ذلك اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي. الهدف الأساسي لهذا المسعى ذو شقين: تعزيز أهمية التراث الثقافي غير المادي وتحصين هذه العناصر الثقافية ضد مخاطر الاستيلاء. وهذا يسمح للمغرب بإدراج العديد من كنوزه الثقافية في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية. وبالإضافة إلى هذه الجهود الدولية، يجب على المغرب اتخاذ خطوات على المستوى الوطني لرفع مستوى الوعي بتراثه الثقافي بين شبابه. تعرض هذه الأحداث ثراء وتنوع التراث الثقافي غير المادي للمغرب وتساعد على الترويج له داخل البلاد وخارجها.
يمكن للسينما والأفلام الوثائقية والدراما والمهرجانات والإعلانات أيضًا أن تلعب دورًا مهمًا في حماية التراث الثقافي من خلال زيادة الوعي وتعزيز قيمة الحفاظ على التقاليد والممارسات الثقافية. ويمكن استغلال هذه الوسائل لسرد قصص تكشف غنى الثقافة المغربية وتنوعها، وإبراز أهمية الحفاظ على تراثها للأجيال القادمة. على سبيل المثال، يمكن للأفلام أو الأفلام الوثائقية التي تعرض الموسيقى التقليدية أو الرقص أو الحرف اليدوية أن توفر منصة للفنانين والحرفيين لعرض أعمالهم والوصول إلى جماهير جديدة. ويمكن أيضًا استخدام الحملات الإعلانية للترويج للسياحة الثقافية، وتشجيع الناس على زيارة المواقع التراثية ودعم الاقتصادات المحلية.