خفضت وكالة التصنيف الائتماني ”فيتش رايتنغ” تصنيف تونس السيادي هذا الأسبوع إلىCCC مع آفاق سلبية. وأتى التصنيف الجديد بعد سبعة أشهر من إسناد تونس تصنيف -B مع آفاق سلبية، وذلك في شهر يوليو (تموز) عام 2021، بعد أن عجزت تونس عن الخروج للسوق المالية العالمية للاقتراض لتسديد ديون سابقة، ثم عدم التمكن من حصول تمويل جديد من قبل صندوق النقد الدولي في يونيو (حزيران) 2021.
وتستعد تونس لخوض جولة جديدة من المفاوضات خلال الأيام المقبلة من أجل الحصول على قرض من قبل صندوق النقد، يمكّنها من تمويل العجز في موازنة 2022 مقابل تنفيذ إصلاحات هيكلية للاقتصاد الوطني، تتعلق بتسوية وضعية المؤسسات العمومية، ورفع الدعم، وإصلاح نظام الجباية، والتخفيض من كتلة الأجور بالوظيفة العمومية. واعتبر خبراء في تصريحات لـ”اندبندنت عربية” أن التصنيف جاء نتيجة توفر معطيات سلبية عن الاقتصاد التونسي، تهدد بإمكانية تخلف البلاد على سداد ديونها، في حين لا تدل المؤشرات الحالية الخاصة بمخزون العملات ومراحل المفاوضات مع صندوق النقد وموقف البنك الدولي، على السير في تعمق المخاطر أو الاتجاه إلى إعادة جدولة الديون على الرغم من الصعوبات الحقيقية التي تواجهها المالية العمومية.
نسق نزول التصنيف
كانت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني قد خفضت ترقيم تونس إلىB3 مع آفاق سلبية في فبراير (شباط) 2021، ثم إلى CAA1 مع آفاق سلبية في أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وعللت ذلك “بضعف الحوكمة وزيادة عدم اليقين في ما يتعلق بقدرة الحكومة على تنفيذ التدابير، التي من شأنها ضمان الوصول المتجدد إلى التمويل لتلبية الاحتياجات المرتفعة على مدى السنوات القليلة المقبلة”، وفق تقرير لها. وحذرت من تخلف تونس عن سداد ديونها إذا لم يتم تأمين تمويل كبير. والنظرة المستقبلية السلبية لوضع تونس الائتماني “تعكس مخاطر الهبوط المتعلقة بالتأخيرات المطولة المحتملة في الإصلاحات والتمويل المعتمد على الإصلاح، والذي من شأنه أن يؤدي إلى تآكل احتياطيات مخزون العملات الأجنبية”.
وفي هذا السيناريو، سترتفع احتمالية إعادة هيكلة ديون القطاع العام، التي قد يترتب عليها خسائر لدائني القطاع الخاص، لكنها لفتت إلى أن “الحكومة جديدة بقيادة رئيسة الوزراء نجلاء بودن، تمهد الطريق لاستئناف المفاوضات مع المقرضين الرسميين والثنائيين”.
كما خفضت المؤسسة اليابانية Rating And Investment الترقيم السيادي للدولة التونسية والبنك المركزي التونسي إلى B+ مع آفاق سلبية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.
وقالت المؤسسة، إن هذا التصنيف يعود بالأساس إلى الوضع السياسي في تونس الذي بات غير مؤكد، منذ أن جمد الرئيس قيس سعيد البرلمان في صيف 2021، وتولى بنفسه السلطة التنفيذية عن طريق إصدار مراسيم، وأن هناك قلقاً متزايداً حول البطء في العودة إلى مسار النمو المستدام.
وبالنظر إلى حالة عدم اليقين القوية بشأن توقعات ضبط أوضاع المالية العامة، فقد يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لضمان انخفاض ثابت في نسبة الدين الحكومي.
ازدياد المخاطر
وذكرت وكالة “فيتش رايتنغ” أن تخفيض تصنيف تونس إلى CCC يأتي بسبب انعكاس ازدياد مخاطر السيولة المالية الخارجية في ظل التأخير للتوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي.
ورأت أن الإصلاحات ضرورية لإعادة التوازن إلى الحسابات المالية التونسية، وضمان القدرة على تحمل الديون في المستقبل وسط توقعات نمو ضعيفة.
ولفتت الوكالة إلى أن الاتفاق المفترض مع صندوق النقد الدولي يتطلب اتفاقاً مع الأطراف المجتمعية، في إشارة إلى المنظمات وبالتحديد الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، إضافة إلى قدرة الحكومة على سن تدابير تنقذ المالية العمومية. وتوقعت أن يستمر العجز في ميزانية تونس عند مستويات مرتفعة في حدود 8.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة الحالية، مقارنة بنسبة 7.8 في المئة عام 2021. وأن يصل حجم الدين العام إلى مستوى 84 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022، وإلى 84.7 في المئة عام 2023.
وأشارت إلى أن عجز تونس عن الخروج إلى الأسواق المالية العالمية للاقتراض، سيدفعها إلى تعويض التمويل الخارجي بالاقتراض من السوق المحلية بكثافة. وقد أدى التعويل المتزايد على التمويل المحلي، إضافة إلى ارتفاع أسعار السلع العالمية، إلى تفاقم التضخم. وتوقعت وكالة “فيتش” أن يبلغ معدل التضخم نحو 8 في المئة أواخر هذه السنة.
تنامي العجز
وبلغت نسبة النمو الاقتصادي 3.1 في المئة عام 2021 بعد توقعات بنسبة 3.9 في المئة من قبل الحكومة السابقة، في ظل تراجع نسبة الاستثمار إلى 13 في المئة، وارتفاع التضخم إلى 6.7 في المئة. وفاقت نسبة الدين 84 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021 بـ114 مليار دينار (38.6 مليار دولار)، وهي الأعلى في تاريخ البلاد. وتبلغ خدمة أصل الدين 10 مليارات دينار (3.38 مليار دولار) سنة 2022، أغلبها موجه إلى السوق الداخلية، بينما لا تزيد خدمة أصل الدين بالعملات على الربع، وأهمها القرض القطري، وقدره 250 مليون دولار، والمفترض تسديده في الشهر المقبل. أما خدمة فوائد الدين لهذه السنة فهي في مستوى 4 مليارات دينار (1.3 مليار دولار). وتعاني الموازنة من عجز قدر بـ9 مليارات دينار (3.05 مليار دولار)، بما فيه المبلغ الموجه إلى خدمة فوائد الدين، وهو ما يمثل 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتحتاج تونس إلى تعبئة موارد خارجية إضافية بقيمة 10 مليارات دينار (3.38 مليار دولار). وعجزت البلاد عن الخروج إلى السوق المالية العالمية، واتجهت إلى الاقتراض من السوق المحلية طوال السنتين الماضيتين، ما عمق أزمة السيولة، وتسبب في تراجع الاستثمار وأداء المؤسسات، بالنظر إلى نقص التمويل الموجه للاقتصاد من قبل البنوك التي أقبلت على السندات لإقراض الدولة.
وتسعى تونس إلى توقيع برنامج تمويل جديد مع صندوق النقد الدولي لتغطية العجز، مقابل تركيز إصلاحات هيكلية تتمثل في الرفع التدريجي للدعم أو ترشيده، وإصلاح المؤسسات العمومية التي تعاني المديونية والإفلاس ببيع جزء منها أو التفويت في بعضها كلياً، ومراجعة منظومة الجباية من أجل تحقيق العدالة في جمع القطاعات، والتقليص من عدد الموظفين وكتلة الأجور في القطاع العام. وقد واجهت الحكومات السابقة رفض المركزية النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) لهذه الإصلاحات لانعكاساتها على الواقع الاجتماعي للموظفين، وتأثيرها على المقدرة الشرائية، وما يترتب عن التفويت في بعض المؤسسات العمومية وفق المنظمة، ما دفع بالأطراف المانحة إلى اشتراط الموافقة المسبقة للشريك المجتمعي.
حول تعاطي المانحين
واعتبر الخبير الاقتصادي جمال بن جميع، أن المستجدات الخاصة بنقاش تونس مع المانحين متعددي الأطراف، تقلل من خطورة التصنيف الجديد لـ”فيتش رايتينغ”، على الرغم من منحاه السلبي المؤثر على قدرة تونس على الاقتراض، وما يؤشر تخفيضه من ضعف أداء الاقتصاد وخموله، بل ركوده، وعدم قدرة تونس على تسديد ديونها، لكن في المقابل، وجب النظر في موقف البنك الدولي الأخير من وضعية تونس وبلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ونيته التدخل لتقديم المساعدات اللازمة لتفادي الانعكاسات الناجمة عن الحرب الأوكرانية – الروسية، إذ عبر البنك عن استعداده لتقديم الدعم المالي لسد الثغرة الحاصلة بفعل ارتفاع أسعار الأغذية بالسوق العالمية، علماً بأن البنك كان قد أعلن منذ شهر واحد، عن تخصيص خط تمويل للإصلاحات ذات الطابع الاجتماعي في تونس، وتقديم قرض بقيمة 400 مليون دولار كدفعة أولى. وهي الإصلاحات ذاتها التي التزمت بها تونس في مشروع إعادة هيكلة الاقتصاد الذي قدمته لصندوق النقد. وتستعد تونس لاستقبال وفد من الصندوق خلال الأسبوع المقبل، لخوض الجولة الأولى من المفاوضات بعد اختتام النقاشات الأولية بمنحى إيجابي، عبر عنه رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لأجل تونس، كريس جيريجات، بالقول إن المحادثات مع السلطات التونسية سجلت تقدماً جيداً. جميع هذه المعطيات حول تعاطي المانحين متعددي الأطراف مع الأزمة المالية في تونس، تنأى بالبلاد عن إعادة جدولة الديون أو إعلان الإفلاس، بل تؤشر إلى إيمان الأطراف المانحة بقدرة الإصلاح على تحقيق التوازنات اللازمة للمالية العمومية في تونس، واستعدادهم لدعمه.
مفعول الصدمات
في حين رأى محمد صالح سويلم، المدير العام السابق للسياسة النقدية في البنك المركزي التونسي، أن التصنيف الجديد يعبر عن الصعوبات الحقيقية التي تمر بها المالية العمومية، وما يعنيه من تأثير على السندات التي أضحت تنطوي على مخاطر ائتمانية. وقد أخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي غير المستقر، والمناخ الاجتماعي المتوتر، ومؤشر النمو المنخفض، وأداء الاقتصاد بصفة عامة. وبناءً عليه، أكد قدرة مصدر السندات على الإيفاء بالالتزامات المالية المستقبلية، أي قدرة تونس على تسديد ديونها. وقد أتى تصنيف “فيتش رايتنغ” CCC ليتطابق مع تصنيف “موديز” منذ ثمانية أشهر وهوCAA1 ، فهو لم ينحدر إلى ترقيم أكثر انخفاضاً، لكن بدا التصنيف قاسياً بالنظر إلى ما أبداه الاقتصاد التونسي من تكيف مع الظروف الاستثنائية، التي تمر بها البلاد طوال 12 سنة، بل أكثر. وهي تباعاً، الأزمة المالية العالمية سنة 2008، وانتفاضة 2011، ثم الهجمات الإرهابية، تلتها موجة من الإضرابات واحتقان اجتماعي وعدم استقرار حكومي، بعدها جائحة “كوفيد-19″، ثم تجميد البرلمان وقرار الرئيس قيس سعيد تولي جميع السلطات، وصولاً إلى الحرب الروسية المُهيّئة لتنامي العجز المالي. وقد هيّأت جميع هذه المعطيات لمناخ عدم الثقة الذي عانته المالية العمومية. في المقابل، استطاعت العملة المحلية الحفاظ على شبه استقرار منذ ثلاث سنوات ولم تنهر، وأظهر مخزون العملات صلابة، ولم ينخفض إلى مستويات حرجة، ومكن الدولة من الصمود. وقد أوفت تونس بجميع التزاماتها المالية، ولم تتخلف عن سداد ديونها. كما لم تعبر تونس عن رغبتها في إعادة جدولة ديونها أو توجس من عدم قدرتها على التسديد، لذلك بدا تصنيف الوكالات مبالغاً فيه بسبب عدم مراعاته ما أظهره الاقتصاد التونسي من قدرة على امتصاص الصدمات.
independentarabia