موقع المغرب العربي الإخباري :
باتت قضايا إصدار شيكات دون رصيد بمثابة قنبلة موقوتة تهدد مستقبل أصحاب المشاريع والمؤسسات في تونس، خاصة وأن المحاكم التونسية أصبحت تعج بمئات المتورطين في هذه القضايا.
فوفقا للإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة العدل، تستقبل المحاكم التونسية بمختلف درجاتها ما يزيد عن 190 ألف قضية إصدار صكوك بنكية دون رصيد سنويا، وقد لوحظ أن عدد القضايا يرتفع بنسبة 12% كل سنة.
فعلى الرغم من أن جل بلدان العالم تخلت عن العقوبات السالبة للحرية في قضايا الصكوك دون رصيد، إلا أن القانون التونسي ما زال يصنفها كـ “جنحة” يُعاقَب مرتكبها بالسجن خمس سنوات مع “دفع غرامة مالية تساوي 40% من مبلغ الشيك أو من باقي قيمته” (الفصل 411 من المجلة التجارية).
وبسبب الأزمة المالية التي تعيشها تونس منذ سنواتِ ما بعد الثورة ونتيجة شح السيولة البنكية، يُضطر أصحاب المشاريع والمؤسسات في تونس إلى التعامل “بالشيكات” كوسيلة دفع مؤجل.
لكنّ عددا كبيرا منهم يواجه صعوبة في سداد المبالغ المستحقة، وهو ما يجعلهم في مواجهة ثلاثي الإفلاس أو السجن أو الهرب خارج البلاد تجنبا للملاحقات القضائية.
ضحايا من أصحاب المؤسسات
يقول “محمد” الذي كان يمتلك شركة مصنّعة للأثاث في حديثه لـ “سبوتنيك”، إن الصكوك البنكية أفقدته كل شيء، شركته وبيته وموطن عمله.
وأكد محمد أنه سبق وأن تعامل بالصكوك البنكية كآلية للدفع ولم يكن يجد إشكالا في خلاص المبالغ المستوجبة للمستفيدين، ولكن الوضع المالي لشركته تدهور كحال المئات من الشركات التي تراجع ربحها بعد الثورة لأسباب عدة، لخّصها في ضعف الإنتاجية والزيادات المتتالية في أجور العمال وهيمنة الاقتصاد الموازي وارتفاع التوريد وخسارة الحرفاء وتراجع الطلب بسبب تدهور القدرة الشرائية للمواطنين.
وأوضح “بعد الثورة خسرنا ما يزيد عن 20% من حرفاءنا بسبب الهجمات الإرهابية، ونتيجة تضاعف الاقتصاد الموازي الذي أضحى يسيطر على 52% من اقتصاد السوق، فضلا عن أن الدولة شجعت التوريد من الأسواق الصينية والتركية بأسعار لا تقبل المنافسة، وهو ما دفع الشركات التونسية إلى خفض الأسعار لمجاراة السلع المستوردة”.
ولفت محمد إلى أن السلطات التونسية قدمت وعودا عديدة بمساعدة أصحاب المؤسسات على البقاء في الدورة الاقتصادية لكنها لم تنفذ، وهو ما اضطر العديد منهم إلى بيع منتوجاتهم بنصف الثمن نتيجة ارتباطهم بسداد الصكوك البنكية التي سيؤدي عدم خلاصها إلى سجنهم.
وأكد محمد أن شركته تجاوزت هذه الصعوبات، لكنها اصطدمت بامتناع العمال عن رفع الإنتاجية ومجاراة طلب الحريف رغم التحفيزات، وذلك طمعا في التعويضات المالية التي يضمنها لهم القانون في حال أقفلت الشركة.
وأضاف “اضطرت في النهاية إلى بيع الشركة وكذلك منزلي لأتمكن من سداد الصكوك البنكية التي على ذمتي، واتجهت للعمل في مجال آخر”. واعتبر محمد أن القانون المنظم للشيكات يساوي بين المتحيّل وبين رجال الأعمال الذين يمثلون 97 بالمائة من النسيج الاقتصادي.
أكثر من 10 آلاف تونسي خارج البلاد
وبحسب المتحدث باسم الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة عبد الرزاق حواص، الذي تحدث لـ “سبوتنيك”، فإن قضايا الشيكات دون رصيد دفعت 10 آلاف و800 تونسي إلى الهرب خارج تراب الوطن خوفا من السجن.
وأكد حواص نقلا عن قاضي العقوبات في تونس، أن أكثر من 12 ألف تونسي مسجون أو صدر ضده حكم بات بالسجن في قضايا إصدار شيك دون رصيد، مشيرا إلى أن جلهم من أصحاب المؤسسات والمشاريع.
وأضاف “عوض أن تبحث الدولة عن حلول بديلة تحافظ بها على ديمومة المؤسسات، فإنها تصر منذ نصف قرن على اعتماد العقوبة السجنية التي هي مخالفة للمعاهدات الدولية التي وقعت عليها تونس والتي تمنع سجن المَدين”.
ولفت حواص إلى أن الدولة التونسية تنفق 18 ألف دينار (أكثر من 6 آلاف دولار أمريكي) على السجين الواحد في السنة، ولكنها تمتنع عن فرض تنقيحات تنقذ المؤسسات من شبح الإفلاس الذي أصاب 140 ألف مؤسسة في تونس.
وبيّن حواص أن القانون الذي تعتمده تونس أدى إلى نتائج عكسية، فمن ناحية أولى عدد قضايا الصكوك دون رصيد يرتفع سنويا، ومن ناحية ثانية “هذا القانون عطّل الدورة الاقتصادية أولا من خلال العقوبات السجنية التي تمنع صاحب المؤسسة من المحافظة على ديمومة العمل، وثانيا من خلال تصنيف البنك المركزي الذي يمنع عنه التعاملات البنكية، وهو ما يدفع البعض منهم إلى اللجوء إلى الاقتصاد الموازي”.
ضريبة اجتماعية وحلول معلقة
ولفت عضو الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، إلى أن قانون الشيكات دون رصيد أدى إلى انعكاسات سلبية على المستوى الاجتماعي، قائلا عندما تحكم على صاحب مؤسسة بالسجن فأنت تحكم على عائلة بالتفكك الأسري.
وأشار إلى أن عددا مهما من أصحاب المؤسسات عجزوا عن تسجيل أطفالهم في المدارس بسبب عدم تمكنهم من استخراج وثيقة إقامة بعد أن صدر ضدهم حكم قضائي بالنفاذ العاجل والذي يحرم المتقاضي من حقه في المرافعة على درجتين.
وبيّن حواص أن جل الذين عوقبوا بالسجن في قضايا الصكوك دون رصيد أفلست مؤسستهم التي كانت توفر للمواطن شغل، وهو ما يعني أن المئات من العملة التحقوا بقائمة العاطلين عن العمل.
ومنذ سنة 1953، تعددت محاولات تنقيح القانون المنظم للشيكات دون رصيد في تونس، إلا أن جميعها لم يتخلى عن العقوبة السالبة للحرية رغم تعدد المبادرات الرامية إلى تعويض العقوبة السجنية بعقوبات مدنية، آخرها المبادرة التشريعية التي بقيت حبيسة رفوف البرلمان بعد أن وقع تجميد نشاطه.
ويرى حواص أن الحل الذي أثبت نجاعته في العديد من الدول هو اعتماد عقوبات مالية، ورقمنة المعاملات التجارية عن طريق اعتماد الشيك الالكتروني، مشيرا إلى أن هذه الآلية ستمكن الدولة من ضبط الناشطين في الاقتصاد الموازي والقضاء على البنوك الموازية التي يديرها أشخاص تتاجر بالصكوك البنكية بطريقة غير قانونية.
المصدر: سبوتنيك
انسخ الرابط :
Copied