رغم توفر كل العوامل، لم تنزلق تونس ليصل فيها الفساد إلى ما وصل إليه في دول اجتاحتها رياح “الربيع العربي”.
الفساد، وإن كان موجودا، لا يشكل ظاهرة، والفضل في ذلك يعود إلى جهاز إدارة أثبتت كفاءة في تسيير شؤون البلاد في أحلك الظروف.
هناك من يثير المخاوف ويتحدث عن انهيار بسبب الديون الخارجية، وهذا كلام غير دقيق، وحقّ يراد به باطل.
الديون الخارجية ظاهرة عالمية وليست مشكلة تونسية. والتركيز عليها يحول دون التركيز على مشاكل اقتصادية حقيقية يجب أن تكون مركز الاهتمام.
لندعم هذا القول بأرقام صادرة عن البنك الدولي:
على رأس قائمة الدول الأكثر مديونية تأتي الولايات المتحدة، وهي أكبر اقتصاد في العالم، بديون فاقت قيمتها 20 تريليون دولار، هي الأعلى في تاريخ البشرية. تليها بريطانيا (8.77 تريليون)، ثم فرنسا في المركز الثالث، وألمانيا في المركز الرابع، واليابان في المركز الخامس، مرورا بهولندا، لوكسمبورغ، أيرلندا، إيطاليا وصولا إلى إسبانيا في المركز العاشر.
وعلى الرغم من أنَ دولا عربية عديدة تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة ومديونيات كبيرة إلا أن قائمة أكبر الدول المدينة في العالم لا تتضمن أي دولة من هذه الدول.
هذا يحيلنا إلى قاعدة بسيطة؛ الديون مشكلة في الدولة عندما تكون الأوضاع الاقتصادية في تلك الدولة صعبة، عدا ذلك هي حالة صحية.
المطلوب، إذا، من الحكومة التونسية مواجهة المشاكل الاقتصادية الحقيقية. وهذا كفيل بحل أزمة الديون.
أما التركيز على خفض الديون، فقط، فسيؤدي إلى ضعف في تمويل المشاريع الاستثمارية وحالة من الشلل الاقتصادي، قد تفضي إلى اضطرابات اجتماعية.
للأزمة التونسية وجهان، وجه اقتصادي وآخر سياسي. الوجه الاقتصادي يتجلى في مخاوف التونسيين الوهمية من الخصخصة. وتُعزى هذه المخاوف إلى عامل موروث عن حكومة الراحل الحبيب بورقيبة، واستمرت مع خلفه الراحل زين العابدين بن علي. وأيضا، ما يبديه اتحاد الشغل التونسي من تشدد، وهو كيان له مكانته بين التونسيين، طالما اعتبر المؤسسات العامة خطا أحمر.
نظرة على النتائج تكفي لمعرفة أن هذا النهج لم ولن ينجح، وأن مصيره الفشل، مثلما فشل في دول أخرى، بعد أن تحول إلى عبء على الاقتصاد.
هل هناك حاجة لعرض أرقام الديون المترتبة على هذه المؤسسات؟
يكفي أن نذكر أن في تونس 110 شركات عمومية في 21 قطاعا منها الطاقة والصناعة والصحة والخدمات والنقل، بلغت خسائرها المتراكمة نهاية عام 2019 ما قيمته سبعة مليارات دينار (2.41 مليار دولار).
في الثمانينات نجحت امرأة بريطانيا الحديدية، مارغريت تاتشر، التي رفعت شعار الخصخصة، في إخراج الاقتصاد البريطاني من أزمته ببيع مثل هذه المؤسسات.
لم يخسر البريطانيون شيئا، بل ربحوا كل شيء.
عبء المؤسسات العمومية متواضع قياسا بعبء آخر هو الاقتصاد الموازي. إذا كانت مؤسسات القطاع العام قد كلفت تونس 2.4 مليار دولار، فإن الاقتصاد الموازي قد حرمها من عائدات ضخمة بعدما أصبح يمثل 60 في المئة من الاستثمارات والأموال المتداولة في الاقتصاد الرسمي.
هذه حقيقة يعلمها الجميع، مثلما يعلم أيضا أن أي حكومة تأتي ستكون عاجزة عن القضاء على الظاهرة، خاصة إذا علمنا أن الاقتصاد الموازي يشغّل أعدادا كبيرة من التونسيين.
ولكن، ليس المطلوب القضاء على الاقتصاد الموازي، المطلوب ترويضه وشرعنته ودمجه في الدورة الاقتصادية للبلاد.
تجاهل العاملين السابقين، والتركيز على خفض كتلة الرواتب ورفع أسعار السلع المدعمة والحديث عن رفع كفاءة المؤسسات العمومية فقط، سيضع تونس في معمعة من المتاعب الاجتماعية الجميع في غنى عنها.
تونس جنة في الشعر، وخضراء بمخيلة عشاقها. ولكنها محاطة بالتحديات على أرض الواقع، وعلى رأس هذه التحديات ما يشهده الاقتصاد العالمي من تطورات، بعد أن تحول خلال عقد من الزمان إلى اقتصاد رقمي وتكنولوجي ذكي. إضافة إلى التغير المناخي الذي أثر سلبا على القطاع الزراعي، وجائحة شلت القطاع السياحي وأنهكت المؤسسات الصحية في البلاد.
رغم ذلك، لم تشهد تونس انقطاعا في خدمات الماء والكهرباء، إلا بالمستوى المعهود سابقا، ولم تتوقف الخدمات الإدارية والمصرفية والخدمات الصحية. ورغم عبء كورونا، تسير الخدمات بالنسق الاعتيادي. ولم تختف في تونس السلع الرئيسية، كما اختفت في دول جارة غنية. والتعليم العام والخاص ما زال متماسكا، وهذا ينطبق أيضا على المؤسسة الأمنية.
الخطوة الجريئة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021 (تعليق العمل بالبرلمان وعزل رئيس الحكومة هشام المشيشي) كانت تكفي لو حدثت في أي بلد آخر لتمزيقه. التونسيون اكتفوا بمظاهرات عبروا فيها عن رأيهم بالقبول أو الرفض، لم تسجل خلالها أي حالات عنف تذكر.
قد يكون ما تحدث عنه الإعلام الغربي من تعرض المتظاهرين السلميين “للضرب بالهراوات والرش بخراطيم المياه”، صحيح. ولكن هذا بالتأكيد، أرحم من استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الحي.
هذا ليس تبريرا للعنف، ولكن محاولة فقط لتلافي تهويل الأمر، من قبل جهات يسيئها نجاح تونس وتميزها.
فاقد البصر والبصيرة فقط، من يطلع على ما يتناقل الإعلام التونسي، الحكومي والخاص، من أخبار، ولا يرى احترام المسؤولين في تونس للممارسات الديمقراطية.
كلمة السر في كل هذا هي شخصية المواطن التونسي والواقعية في التعامل مع الأمور، السمة التي كافأهم عليها المجتمع الدولي بمنح الرباعي الراعي للحوار الوطني جائزة نوبل للسلام عام 2015. الجائزة، التي استلمتها أربع منظمات مجتمع مدني، استلمت نيابة عن تونس والتونسيين.
ولكن، حذار من المراهنة على قوة الدفع الذاتي هذه إلى ما لا نهاية.
ما تحتاجه تونس هو إجماع وقيادة قوية، افتقدتهما خلال العشرية الماضية بسبب تضارب الآراء وحرصا على ما اعتقده التونسيون ممارسة للديمقراطية.
وعلى تونس والتونسيين أن ينسوا من تسبب بكل ذلك، لأن ما حدث هو مسؤولية جماعية يتحمل وزرها الجميع دون استثناء؛ باندفاعهم لتحقّق ما اعتقدوه ممارسة ديمقراطية، وضعت العصا في العجلات وشلت البلاد.
الجانب السياسي للأزمة في تونس تسبب فيه النظام الانتخابي وتشتت الأصوات، الذي حال دون تشكيل حكومة قوية من قبل أي حزب فائز.
التونسيون اليوم، وفق استشارة قانونية أطلقها الرئيس سعيد، يفضلون النظام الرئاسي، حيث وافق معظم من شاركوا في الاستشارة على سحب الثقة من نواب البرلمان المجمدة أعماله.
مسلحا بهذه النتائج، يمكن للرئيس سعيد، وهو الذي انتخب بنسبة 72.71 في المئة من أصوات التونسيين، أن يقود تونس إلى بر الأمان، ويعلن عن مصالحة الرجل القوي.
التونسيون حددوا موقفهم، وعلى الجميع مدّ يد المصالحة، وعلى الرئيس سعيد أن يقبل اليد الممدودة إليه.
المصدر العرب