لا تزال تحرّكات عدد من العناصر التابعة للجماعات “السلفية الجهادية”، والتي تتقدمها جماعة “جند الخلافة”، تشكل صداعاً في جمجمة مؤسسات الأمن في تونس.
قبل نحو أسبوع أعلنت وزارة الدفاع التونسية أنها نجحت في القضاء على 3 من أعضاء تنظيم “جند الخلافة”، بحيث تم قتلهم في عملية مشتركة بين قوات الجيش والأمن في ولاية القصرين في الوسط الغربي للبلاد.
خلال الفترة ذاتها، قامت السلطات الأمنية بمصادرة كميات من الأسلحة، بينها بنادق كلاشنكوف، بالإضافة إلى مخازن ذخيرة وآلاف الطلقات النارية، كانت تُستخدم للتهريب إلى جماعات إرهابية، وذلك في مدينة بنقردان في ولاية مدنين التونسية.
وتُعَدّ تلك العمليات الأمنية غيضاً من فيض الجهد الذي تبذله السلطات التونسية، كمحاولة لوأد أي احتمال لتنفيذ عملية إرهابية جديدة في البلاد التي شهدت تراجعاً ملحوظاً في نشاط الحركات المتطرفة بعد أعوام من النشاط خلال أعوام ما بعد “الربيع العربي”.
إلّا أن تلك الحالة من “الخمول الإرهابي” في تونس لا تعني، في أي حال، الاختفاء الكامل للظاهرة، بحيث إن الرئيس التونسي، قيس سعيد، ذاته، كان معرّضاً للاغتيال مطلع هذا الصيف. وحينها أحبطت قوات الأمن هجوماً حاول أحد العناصر التكفيرية تنفيذه ضدّ نقطة أمنية أمام أحد المقارّ الحساسة، في واقعة لم تكن الأولى من نوعها منذ تولي سعيد رئاسة تونس، لكنها كانت الأخطر بالنظر إلى توقيت حدوثها، بحيث كانت البلاد تستعدّ لإجراء استفتاء دستوري.
وعليه، لا تزال تحرّكات عدد من العناصر التابعة للجماعات “السلفية الجهادية”، والتي تتقدمها جماعة “جند الخلافة”، تشكل صداعاً في جمجمة مؤسسات الأمن في تونس، وذلك بهدف حماية المؤسسات الحاكمة وإيقاف هدر الدماء وتجنيب البلاد الانزلاق إلى دوامة الفوضى التي تعانيها بلدان أخرى، سقطت شوارعها تحت سلطة المتطرفين.
دماء تونسية مُراقة.. والولاء يتبدّل من “القاعدة “إلى “داعش”
“جند الخلافة”، أو “أجناد الخلافة”، هي جماعة مرتبطة حالياً بـ”تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وظهرت في مطلع عام 2014 كتنظيم مستقل في تونس، يشابه في تكوينه الفكري سائر التنظيمات السلفية الجهادية، التي تعتمد على دمج أفكار أبي الأعلى المودودي وسيد قطب في المنهج الوهابي وتراث ابن تيمية.
وكانت “جند الخلافة”، في نشأتها وبحكم بنيتها الفكرية، تقترب من تنظيم “القاعدة” وزعيمه أيمن الظواهري، وخصوصاً أن مجموعة من قادة الجماعة كانت سافرت خلال الثمانينيات للقتال في أفغانستان ضد الروس، على النحو الذي ربط جذور هؤلاء بالولاء لمؤسسي “القاعدة”، إلّا أنّ هذه التبعية لم تدُم طويلاً، بحيث تبدّلت الأمور بحلول نهاية العام ذاته. ففي كانون الأول/ديسمبر 2014 أعلنت الجماعة مبايعة تنظيم “داعش”، وكان هذا بتأثير من وهج الانتصارات التي “خطفها” “الدواعش” في غفلة من الزمن في العراق، قبل أن تتشكل قوات الحشد الشعبي العراقي وتنجح في التصدي لهم، وكبح جماحهم.
خلال نحو ثمانية أعوام من عمل هذه الجماعة في تونس، شاع اسمها في سائر وسائل الإعلام، بحيث كانت المسؤولة عن مجموعة من الهجمات التي تم تنفيذها ضد أهداف مدنية وأمنية وعسكرية داخل البلاد، بما فيها قطع رأس شابّ تونسي كان يعمل في رعي الأغنام، في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، في حادثة أثارت الرأي العام المحلي حينها، ودفعت أجهزة الأمن إلى مزيد من التدابير.
بخلاف حادثة ذبح الشاب مبروك سلطاني، والتي كانت بمثابة جرس إنذار قاسٍ للمجتمع التونسي، كانت الجماعة هي المسؤولة عن عدد من الهجمات الإرهابية التي نُفّذت في البلاد، منها هجوم متحف باردو، بالتنسيق مع عناصر أخرى موالية لـ”داعش”، حين تم احتجاز نحو 200 سائح داخل أحد المتاحف التونسية، وخلّف الهجوم 22 قتيلاً، بالإضافة إلى المسلحين والجرحي، وكذلك الإمعان في إيذاء عائلة سلطاني، بحيث تم ذبح خليفة، شقيق مبروك، في حزيران/يونيو 2017، بجريرة التعاون مع الجيش التونسي وتقصّي آثار التنظيم في الصحراء. كما هاجمت العناصر المتطرفة مركبات عسكرية تونسية في كانون الثاني/يناير 2020 وآذار/مارس 2020، عبر استخدام أجهزة متفجرة يدوية الصنع. كما أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن اعتداء بسكين في تونس أسفر عن مقتل ضابط في الحرس الوطني وإصابة آخر بجروح في أيلول/سبتمبر 2020. كما تسبّبت الألغام التي زرعتها الجماعة في مرتفعات جبل مغيلة بمقتل 4 عسكريين في شباط/فبراير 2021. وفي آب/أغسطس 2022 أُصيب عسكريّان تونسيّان في اشتباكات مع عناصر تابعة لـ”جند الخلافة” في جبل السلوم في محافظة القصرين. وفي آذار/مارس 2022، قامت قوات الأمن باعتقال أجانب كانوا يعتزمون الالتحاق بتنظيم “جند الخلافة” التابع لتنظيم “داعش” في ليبيا.
اللافت في جماعة “جند الخلافة” أن عملها لم يقتصر على الشبان التونسيّين الذكور، بل امتد إلى الدوائر النسائية، ونجحت في تجنيد عدد من المراهقات والشابات اللواتي نشطن في الدعوة إلى تأييد الجماعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي من جهة، والمشاركة في العمليات من جهة أخرى. وكانت قوات الأمن التونسية أعلنت، في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، نجاحها في تفكيك خلية إرهابية نسائية تابعة للتنظيم، نشطت في المنطقة الواقعة بين محافظتي الكاف في الشمال الغربي للبلاد وتوزر الواقعة في جنوبيها الغربي.
بحسب الخبراء الأمنيّين والاجتماعيين في تونس، اعتمد قادة “جند الخلافة” على التمويل السخي من جانب تنظيم “داعش”، بهدف تجنيد مزيد من العناصر التي لديها عقيدة سلفيّة واستعدادات لرفض الحداثة والانقلاب عليها. كما نجح التنظيم في تأسيس خلايا إعلامية لترويج عملياته من أجل إثارة حماسة الشبان وجذبهم إلى قراءة مؤلفات التنظيم، مثل الكتب التي أصدرها أبو عبيدة الشنقيطي للردّ على منتقدي أبي بكر البغدادي، وكذلك “مسائل في فقه الجهاد” لأبي عبد الله المهاجر، و”مدّ الأيادي لبيعة البغدادي” لتركي البنعلي. أما أهم الكتب فكان “إدارة التوحش” لمؤلفه أبي بكر الناجي، والذي لقي رواجاً واسعاً في سائر دوائر انتشار التنظيم داخل الوطن العربي وخارجه.
من ليبيا إلى تونس إلى الجزائر.. المخاطر مشتركة
تنتشر الجماعات الإرهابية في تونس بالقرب من الحدود الجزائرية، بحيث تجد في المناطق الصحراوية والجبلية مأوىً لها. وتركّز جهد الأمن التونسي، خلال عمليات التصدي لجماعة “جند الخلافة”، على ولاية القصرين التي تحدّها من الغرب ولاية تبسّة الجزائرية.
تقول الإحصاءات الأولية إن قرابة 120 عائلة تونسية، تسكن عند الحدود بين الجزائر وتونس، غادرت منازلها خلال عام 2020 بسبب نشاط الجماعات الإرهابية والشعور بالخطر والتهديد. وتتمثّل تلك المخاطر بمداهمة المتطرفين للأهالي بين وقت وآخر، بحثاً عن الغذاء والمواد الإعاشية، بالإضافة إلى إجبار الأهالي على إيوائهم في فترات التمشيط الميداني التي تقوم بها القوات التونسية.
تكرّرت لقاءات التنسيق بين المسؤولين التونسيين والجزائريين من أجل إعداد المخططات المشتركة للتصدي للتنظيمات المتطرفة التي تهدد البلدين، والتي بدورها استفادت من سقوط الدولة الليبية في عام 2011، بحيث بدأت العناصر المتطرفة التزود بالسلاح من هناك، واختبار قدراتها القتالية في المعارك التي لا تنطفئ جذوتها منذ نحو 11 عاماً.
لا تُخفي جماعة “جند الخلافة” أجندتها الجغرافية التي تشمل مناطق نشاطها، فهي تتحرك في عموم “أرض الجزائر” أو “المغرب العربي”، على نحو يشمل تونس والجزائر وليبيا وأحياناً المغرب، عبر التنسيق مع بعض التنظيمات المشابهة هناك. وبالتالي، تشابهت عمليات الذبح التي نفذتها الجماعة في تونس مع العمليات التي نفذتها في الجزائر، على سبيل المثال، بحيث تم قطع الرؤوس هنا وهناك، ونُشرت الفيديوهات عبر منصات التواصل، واغتيل العسكريون ورجال الأمن بالمتفجرات والأسلحة الخفيفة.
وكانت ذروة نشاط الجماعة في المغرب العربي خلال الفترة الممتدّة من عام 2013 حتى نهاية عام 2015، إلّا أن نجاح قوات الأمن التونسي، بالتنسيق مع المخابرات الجزائرية، في القضاء على لقمان أبو صخر خلال عملية أمنية في منطقة سيدي يعيش في ولاية قفصة عند الحدود في آذار/مارس 2015، مثّل ضربة قوية لـ”جند الخلافة”، بحيث كان يقوم أبو صخر بدور المنسِّق بين الجماعات المسلحة الموالية لتنظيم “داعش” في ليبيا وكتيبة “عقبة بن نافع” و”جند الخلافة” في تونس والجزائر. كما كان من المنتظر أنْ يتم تنصيبه رسميّاً من جانب أبي بكر البغدادي، وذلك من أجل توحيد الجهود أكثر بين المسلحين في المنطقة وتوسيع نشاطهم في شمال أفريقيا.
ويرى الضالعون في الشؤون الأمنية التونسية، أنه لا يمكن لتونس أو أي بلد عربي آخر الوصول إلى الدرجة المنشودة من الأمن والاستقرار من دون توحيد الجهود مع الدول المحيطة لدرء المخاطر المشتركة، وأن كل الأقطار العربية دفعت ضريبة ثقيلة لتدهور الأوضاع في ليبيا وتحوّلها من دولة تستضيف العمالة العربية إلى دولة تنتشر فيها الميليشيات، وتصدّر السلاح وتُؤوي المتطرفين.
مستقبل التنظيم في الأراضي التونسية
من المؤكد أن التنظيمات الإرهابية تستثمر في حالة الارتباك السياسي، وتنمو بذرتها، بحيث ينعدم الاستقرار، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، فتكون الأمور ممهَّدة للنشاط والعمل على استقطاب مزيد من العناصر، ثمّ تنفيذ العمليات. وبالتالي، فإن ضمانة انحسار نشاط التنظيمات السلفية الجهادية في تونس، وفي مقدمتها “جند الخلافة”، ليس مرهوناً بكفاءة قوات الأمن وحدها، وإنما بتحسّن أحوال البلاد بصورة عامة، وهدوء حالة الاضطراب السياسي من ناحية وتحسّن الأوضاع المعيشية للمواطنين من ناحية أخرى.
وشهدت تونس بداية من عام 2011 حتى عام 2017 سلسلة من الهجمات الإرهابية، تخلّلتها عمليات اغتيال سياسي راح ضحيتها السياسيان اليساريان شكري بلعيد، في السادس من شباط/فبراير 2013، ومحمد البراهمي، في 25 تموز/يوليو من العام ذاته.
ويربط بعض الباحثين التونسيين نمو نشاط الحركات السلفية الجهادية بصعود تيارات الإسلام السياسي، بزعامة حركة النهضة، إلى السلطة خلال الأعوام الأربعة التي تلت رحيل زين العابدين بن علي، وذلك على اعتبار تآخي المنابع الفكرية واتحاد المصالح في إسقاط حكومات عدد من الدول العربية، كسوريا على سبيل المثال ومصر، بعد حزيران/يونيو 2013، وليبيا خلال حكم معمر القذافي. كما يرى أنصار هذا الرأي أن قرارات العفو عن سجناء التيار الجهادي، المنتمين إلى “الجماعة المقاتلة التونسية” خلال عام 2011، كانت من أهم العوامل التي دعمت ظهور جماعة “أنصار الشريعة” التي تفرعت منها كتيبة “عقبة بن نافع” وتنظيم “جند الخلافة”، إلّا أن مؤيدي “النهضة” يرون، في المقابل، أن العمليات الإرهابية أضرّت تجربتهم في الحكم، وجعلتهم في موضع إدانة دائمة، ومكّنت خصومهم السياسيين من النيل من سمعتهم، وأجبرتهم على الانشغال بدفع التهم الموجهة إليهم وإنكار روابطهم بالمتطرفين. وهذا عبء مضاف إلى أعباء المسؤوليات السياسية الملقاة على عاتقهم خلال فترة حكمهم.
وسط هذا الجدل الدائم، ربما من أهم ميزات المؤسسات العسكرية والأمنية في تونس، النأي بالنفس عن التجاذبات الحزبية في البلاد، والتزام قياداتها المهمّات المكلفة بها بعيداً عن حالة الصخب السياسي التي انتعشت في أول البلدان العربية اصطداماً بقطار “الربيع”.
والواقع اليوم، أنه بعد أن كانت العناصر المتطرفة التابعة لـ”جند الخلافة”/”داعش” تنصب الكمائن للجنود والضباط، صارت قيادات الإرهاب وعناصره أهدافاً لعمليات التمشيط التي ينفذها العسكريون في البؤر التي يتخفى فيها الإرهابيون. وعلى الرغم من هذا، فإن السلطات الأمنية التونسية تعلن أن عشرات الإرهابيين لا يزالون يتحصنون في جبال محافظات القصرين والكاف، غير بعيد عن الحدود الجزائرية. كما تنشر المركز الاستراتيجية التونسية ما يفيد بأن الفكر الإرهابي يجد في البلاد تربة خصبة للانتشار، وأن العناصر المتطرفة لم تمتنع بعدُ عن نشر سمومها الفكرية، وأن التحركات الإرهابية مرشحة للزيادة بالنظر إلى تراجع الوضع في البلاد، سياسياً واجتماعياً.
الميادين