أعطى الرئيس الجزائري عبد الفتاح تبون الضوء الأخضر مؤخرا لتدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية للمرة الأولى في تاريخ البلاد، بالتزامن مع احتفال الجزائر بمرور ستة عقود على الاستقلال وانتهاء الاحتلال الفرنسي.
لم تمر هذه الخطوة مرور الكرام، بل أثارت جدلا وفتحت نقاشات عديدة نظرا لأن اللغة تعد أحد محاور ما يعتبره كثيرون صراعا أيديولوجيا وصراع هوية بين التيار الفرانكوفوني وتيار التعريب في البلاد.
بعد تحقق الهدف العسكري لثورة التحرير بإنهاء الاستعمار الفرنسي واستقلال الجزائر في عام 1962، واجهت البلاد مشكلة أخرى تتعلق بالهوية والثقافة، حيث كانت اللغة الفرنسية قد مدت جذورها في البلاد خلال فترة احتلال استمرت قرنا ونصف القرن هُمشت خلالها اللغة العربية.
كان هناك نوعان من التعليم وفق المؤرخين: تعليم فرنسي أنشأت من أجله المعاهد والمدارس وأشرفت عليه ومولته وزارة التربية والتعليم الفرنسية، وتعليم عربي إسلامي يغلب عليه الطابع الديني واللغوي ويعتمد على التبرعات والجهود الطوعية من قبل الجزائريين أنفسهم. أدى ذلك إل خلق نوعين من المتعلمين والمثقفين في الجزائر – “المفرنسين” و”المعربين”، ما خلق نوعا من الصراع والتصادم في أحيان كثيرة في مرحلة ما بعد الاستقلال.
هل تمحو الاعتذارات الرسمية للغرب فظائع الاستعمار؟
قصة حملة القمع “الوحشية” التي شنتها بريطانيا ضد الماو ماو
بعيد الاستقلال، واجهت السلطات الجزائرية تحديات جسام. ففضلا عن تردي الأوضاع الاقتصادية، كانت هناك نسبة أمية مرتفعة للغاية يقدرها المؤرخون بنحو 85 إلى 90 في المئة من السكان، بالإضافة إلى منظومة تربوية هزيلة وقطاع تعليمي يتبع نظاما فرنسيا كاملا، فوجدت نفسها أمام ضعف الإمكانيات وقلة الخبرات في هذا المجال مضطرة لاستمرار العمل بالنظام الفرنسي، مع محاولة إدخال اللغة العربية تدريجيا كمادة من المواد الدراسية.
وشهدت الجزائر منذ ذلك الحين محاولات عديدة للانفكاك عن اللغة الفرنسية، حيث نص دستور البلاد الجديد عام 1963 على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، وصدرت أوامر رئاسية بوجوب تعريب السجلات العائلية ووثائق الأحوال المدنية والأختام الرسمية. كما صدر في عام 1991 قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي يحدد قواعد استخدامها في كافة نواحي الحياة وطريقة حمايتها.
لكن القانون جُمد، وحمّل المدافعون عن اللغة العربية آنذاك من وصفوهم ب”النخبة الفرانكوفونية النافذة” في مؤسسات الدولة مسؤولية ذلك، ولا سيما إبان فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (1998-2019) الذي كان يخاطب مواطنيه ويتحدث في لقاءات رسمية مع وسائل إعلام جزائرية باللغة الفرنسية، والذي اعتمد اللغة الفرنسية في مراسلات القطاعات الحكومية.
إبان الحراك الشعبي الذي اندلعت شراراته في 22 فبراير/شباط 2019 وأجبر بوتفليقة على الاستقالة، تحركت مرة أخرى قضية إعلاء اللغة العربية وتعزيزها باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، كما تعالت الأصوات المطالبة بدعم حضور اللغة الإنجليزية في التعليم.
وفي يونيو/حزيران الماضي، أعلن مجلس الوزراء الجزائري أن الرئيس عبد المجيد تبون أمر “باعتماد اللغة الإنجليزية بدءا من الطور الابتدائي”.
القرار لم يقدم أي تفاصيل، ولكنه أثار جدلا كبيرا في الجزائر، واعتبره البعض خطوة تهدف إلى الحد من نفوذ اللغة الفرنسية التي تدرّس في المرحلة الابتدائية منذ عشرات السنين، وتنفيذا لتعهدات تبون الانتخابية بالاستجابة لمطالب الحراك.
يقول الأستاذ الجامعي المختص في العلوم الاجتماعية الدكتور بومدين بوزيد إن إدخال الإنجليزية “سيؤدي إلى التحرر من لغة ظلت مهيمنة لستة عقود..صحيح اللغة الفرنسية من اللغات الحية وعشنا معها بحكم الاستعمار ومع تراث كبار الأدباء والمفكرين الذين كتبوا بها مثل ديكارت وهوغو، وهو تراث لا ينبغي أن يضيع، لكن يجب الخروج من هيمنتها لأنها تحولت من لغة علم إلى جزء من البيروقراطية الإدارية التي يمارسها متحدثوها، وأصبحت الجماعات الفرانكوفونية تريد لها أن تبقى لا كلغة علم، ولكن كأداة تمكنهم من تحقيق مصالحهم”.
“التيفو”: من الملاعب إلى ساحات الاحتجاج في الجزائر؟
الجزائريون يصوتون على التعديلات الدستورية
الاحتجاجات تعود إلى الجزائر وتُقلِق الرئيس
تجربة التسعينيات
هذه ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها مشروع تدريس اللغة الإنجليزية في المراحل التعليمية الابتدائية في الجزائر. ففي بداية التسعينيات، طرح وزير التربية والتعليم السابق الدكتور علي بن محمد الفكرة ذاتها وبدأ بالفعل بالتحضير لتنفيذها من خلال تأهيل المعلمين وجلب مفتشين عامين من بريطانيا.
لكن الوزير اضطر إلى الاستقالة من منصبه في أعقاب ما عرف بفضيحة تسريب أسئلة امتحان البكلوريا عام 1992، والتي وصفها بن محمد في تصريحات إعلامية أدلى بها في وقت لاحق بأنها كانت عملية منسقة تهدف إلى الإطاحة بمشروع اللغة الإنجليزية.
وردا على مخاوف البعض من أن يكون المشروع الحالي مصيره الفشل هو الآخر، يقول الدكتور بوزيد، الذي يشغل منصب الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى (مجلس استشاري تابع لرئاسة الجمهورية الجزائرية)، إنه لا يتصور تكرار تجربة التسعينيات، لأن “هناك جماعات أو كتل تاريخية تتشكل حاليا: نحن أمام جيل جديد من السياسيين والإداريين أغلبهم يتقنون العربية والفرنسية معا – بعكس الوقع قبل 20 أو 30 عاما عندما كان عدد المعربين قليلا – ومن ثم فهم لا يخافون على مصالحهم ومناصبهم”.
ويضيف الدكتور بوزيد أن بعض المسؤولين النافذين عكفوا على تشجيع البقاء داخل نطاق اللغة الفرنسية، حيث ظلوا “يشجعون على إبرام اتفاقات مع فرنسا أو دول فرانكوفونية كبلجيكا وكندا بدلا من بلدان عربية أو أنغلو ساكسونية…أتصور أن التطور الذي حدث في الجزائر، لا سيما خلال العشرين عاما الأخيرة، جعلنا نجد أنفسنا أمام استثمار خارجي..وحاجة اقتصادية تتطلب أجيالا ونخبا تتقن اللغة الإنجليزية”.
ويرى مراقبون أن إعلان رئاسة الوزراء في حد ذاته يؤشر إلى تحولات داخل أروقة السلطة، لاسيما فيما يتعلق بحجم النفوذ الذي كان يتمتع به من يطلق عليهم في الجزائر “اللوبي الفرانكفوني” أو “حزب فرنسا”، الذين يُتهمون بإفشال مشروع الوزير بن محمد.
ماكرون يطلب الصفح من الحَرْكَى الجزائريين الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي
عودة السفير الجزائري إلى فرنسا “مشروطة باحترام كامل للدولة الجزائرية”
ما بين مواكبة العصر و”التسييس”
كان استفتاء قد أجرته وزارة التعليم العالي في أواخر عام 2019 قد أظهر أن نحو 93 في المئة من طلاب الجامعات الجزائرية في شتى التخصصات يؤيدون تعميم تدريس اللغة الإنجليزية في جميع مستويات التعليم العالي وليس فقط في الليسانس والدراسات العليا.
يتفق الدكتور بومدين هو وكثير من الجزائريين الذين تحدثت معهم أو تابعت آراءهم على مواقع التواصل الاجتماعي، على أهمية تعلم اللغة الإنجليزية لأنها على حد قولهم لغة العلم والتقدم.
كما أن ثمة أجيالا من الشباب الذين يحبون تعلم اللغة الإنجليزية لأنها هي اللغة المهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي.
ويلفت بوزيد إلى ما يعتبره “حاجة علمية بالدرجة الأولى” إلى اللغة الإنجليزية لأن الكثير من الكتاب والباحثين الجزائريين، ولا سيما في العلوم الإنسانية والفيزياء والتكنولوجيا، يجدون صعوبة بالغة في الوصول إلى العالمية لأنهم ينشرون باللغة الفرنسية بدلا من الإنجليزية.
رغم إقراره بأن “اللغة الإنجليزية لغة حية مطلوبة في المنظومة العالمية بأسرها على الصعيد التكنولوجي وصعيد العلاقات الدولية”، إلا أن المعارض الجزائري البارز كريم طابو ينتقد ما يعتبره تسييسا لقضية كان من المفترض أن تكون “من اختصاص علماء ومفكرين وخبراء يعملون على تطوير المنظومة التربوية والفكرية”.
ويضيف: “هناك خلفيتان: خلق نقاش سياسي هامشي لأن الأزمة في الجزائر هي بامتياز أزمة سياسية – وكأن المشكلة في الجزائر بين الإنجليزية والفرنسية أو الصينية..الخلفية الأخرى هي رغبة من النظام في استغلال الشعور بالانتماء إلى الوطن، لا سيما في تاريخ رمزي هو تاريخ استقلال الجزائر، ليذّكر الجزائريين بأن اللغة الإنجليزية قد تكون نقيضا للغة الفرنسية. كان من المفروض أن تكون هذه النقاشات العلمية من اختصاص أهل العلم…عندما تتوغل السلطات السياسية في هذه المسائل، يصبح النقاش بين السياسيين وبين من يقومون بالمزايدة السياسية ويبقى العلم هامشيا”.
أما الدكتور بوزيد فيرى أن هناك رغبة سياسية في تعميم اللغة الإنجليزية، ولكنها بحاجة إلى “آليات حقيقية من طرف مسؤولين مختصين يجب أن يأخذوا الأمر بجدية كبيرة”.
تحديات مادية و”بيداغوجية”
وبعيدا عن الشق السياسي والثقافي لمشروع تعميم اللغة الإنجليزية، أعرب البعض عن مخاوفهم من أن المشروع قد يتعرض للفشل لأسباب مادية ولوجيستية و”بيداغوجية” (تربوية، دراسية).
يقول مسعود بوديبة الناطق الرسمي للمجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس في قطاع التربية الجزائري إن اعتماد اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية “عنوان مغر ويلقى استحسان العديد من الأطراف”، ولكن منظومة تعليم اللغات والمنظومة التعليمية في المرحلة الابتدائية بأسرها في رأيه بحاجة إلى دراسة معمقة وكثير من الإصلاحات التي ينبغي أن تتم أولا.
ويوضح القيادي النقابي أن المدرسة الابتدائية تعاني من العديد من المشكلات بالفعل مثل كثافة المواد ونقص الوسائل التعليمية، ومن ثم فإن “إضافة اللغة الإنجليزية إلى المنظومة الحالية بدون إصلاحها سيزيد من ثقل المواد والضغط على الطلاب بدلا من أن يخدم اللغة…التلاميذ يدرسون الفرنسية 10 سنوات ولا يتقنونها، والإنجليزية 7 سنوات ولا يتقنونها..إذن هناك مشكلة في منظومة اللغة بأسرها”.
ويشير بوديبة كذلك إلى أهمية وضع منهجية واضحة لتطبيق القرار: “يجب توفير الإمكانات البشرية، أي الأساتذة الذين يستطيعون التدريس في هذه المرحلة، وهو شيء غير متوافر حاليا. فكون الشخص حاصلا على ليسانس في اللغة الإنجليزية لا يعني أن بإمكانه أن يدرس للمرحلة الابتدائية. إننا لم نكوّن أساتذة لهذه المرحلة بعد”.
يتفق الدكتور بمودين بوزيد مع الأستاذ بوديبة على أهمية التحضير الجيد للمشروع، ويقول إنه إذا تم “من الآن إرسال مدرسين ومفتشين في اللغة الإنجليزية لحضور دورات تكوينية في بريطانيا وأمريكا والدول الأوروبية التي تُعنَى بتطوير تعليم اللغة…فسوف تنجح التجربة”.
أما الأستاذ كريم طابو فيرى أن الواقع الجزائري “لا يعطي أي إحساس بأن النظام قادر على تصحيح الأوضاع في أي مجال ما لم تقام دولة القانون حتى تتمكن كل شرائح المجتمع من التعبير عن خياراتها. لا يمكن أن تأتي بمدرسة فرنسية أو إنجليزية وتفرضها على الجزائريين. الجزائريون قادرون على صنع مدرسة لهم تكون متجذرة في قيم المجتمع، وحينها تصبح اللغة مجرد أداة لتحصيل العلم والتكنولوجيا”.
المصدر :” العرب اليوم 2 “