لا يختلف اثنان على أن الأذكياء في زمن التكنولوجيا الرقمية يصنعون من الأزمات فرصا جديدة لتحسين الأداء وزيادة المردودية، بدل أن تكون عوائق في طريقهم نحو التقدم، ذلك ما ينطبق بالتمام على الاجتماعات الافتراضية أو “إجتماعات أونلاين” في زمن كورونا، حيث تمكن أصحاب الهمة العالية من كسر الحصار الوبائي بتجسير المسافات القاريّة البعيدة عبر تقنية التحاضر عن بعد.
وبفضل التواصل الافتراضي تمكنت شركات حكومية وهيئات رسمية ومتعاملون خواص في الجزائر من عقد لقاءات دبلوماسية ومؤتمرات اقتصادية واتفاقيات بملايين الدولارات، حيث أثبتت تجربة التكيف مع إكراهات الكوفيد19 أنه من الممكن للإرادة الإنسانية، ليس فقط أن تتجاوز كل العقبات، بل أن تصنع من المحنة منحة واعدة، كما اكتشفت أن إدارة الكثير من التزاماتها وأعمالها التقليدية ممكنة عن بعد وبتكلفة ماديّة أقل بكثير.
150 مليارفقط أحدثت الفارق!
خصصت الحكومة خلال سنة 2021 ميزانية 150 مليار سنتيم لقطاع الرقمنة، وهو رقم يصفه الخبراء بـ”المنخفض جدا” مقارنة مع مخططها الضخم لعصرنة مؤسساتها، وإدخال التكنولوجيات الحديثة لتسيير برامج شتى الوزارات.
وبالرغم من ذلك، سعت العديد من الهيئات الرسمية والشركات المملوكة للحكومة خلال فترة الحجر الصحي التي أعقبت تفشي فيروس كورونا إلى استغلال ولو مبالغ صغرى، لإحداث فرق كبير في مجال الرقمنة، من خلال مساع فعلية لتعميمها، برزت عبرالندوات الافتراضية المنظمة مؤخرا.
وفي السياق يؤكد المدير المركزي المكلف بدعم الاقتصاد الرقمي على مستوى وزارة الرقمنة والاحصائيات فاتح الدين قزيم في إفادة لموقع “الشروق أونلاين” أن أزمة فيروس كورونا أثبتت الدور الأساسي للتقنيات الرقمية في دعم النشاط الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والتعليمي، حيث سرّعت إجراءات الحجر الصحي في تبني عدد لا بأس به من الشركات لأنظمة وتقنيات إلكترونية لم تكن موجودة من قبل.
ويقول قزيم: “كانت هذه الشركات تكتفي فيما سبق بتسيير ملفاتها عبر الأوراق والأقلام وفي أحسن حالاتها تستعمل أجهزة حاسوب غير متطورة، لتلجأ خلال فترة كورونا وبطريقة ماراطونية إلى تغيير طريقة عملها من خلال التحول إلى نظام العمل عن بعد، وعقد المؤتمرات عبر الفيديو سواء في مكان العمل أو خارجه، وهو نفس ما لجأت إليه معظم المؤسسات الحكومية أو حتى الخاصة”.
ويشدد المتحدث على أن الرقمنة شهدت قفزة عملاقة في ظرف 16 شهرا عبر مختلف القطاعات والمجالات، على غرار الصحة والتربية والتعليم العالي وحتى الصناعة في الجزائر، إذ تم تنظيم ندوات عبر الانترنت لتحل محل الاجتماعات وجها لوجه، ومنصات التدريس بدل الجامعات والمدارس، ومؤتمرات الفيديو بدل اجتماعات الإدارة العامة، كما ساهمت أزمة كوفيد 19 في ميلاد جيل جديد يعتمد أحدث تقنيات الرقمنة في المؤسسات ويسعى إلى تسريع وتيرة نشاط بعض الشركات، للمضي قدما في هذا التحول الرقمي، الذي أصبح معيارا لهذا القرن.
وتسعى وزارة الرقمنة والإحصائيات _ وفقا للمتحدث _ لاعتماد وتعميم هذا النموذج للعمل، والذي يكتسي عدة مزايا سواء من حيث تقليص تكلفة المؤتمرات، أو التحكم في الإدارة الشاملة للندوات واللقاءات الافتراضية أو تسهيل وتحسين العمليات الإدارية المختلفة.
اجتماع مجلس الوزراء بـ10 دولار
ويؤكد الخبير في مجال التكنولوجيات يونس قرار أن نفقات كبرى، كانت تُصرف في الماضي على الاجتماعات التي كانت تعقد، سواء بالنسبة للشركات العمومية أو الخاصة أو حتى القطاعات الوزارية، فالكثير من المديرين كانوا يتنقلون من ولاياتهم نحو العاصمة لحضور اجتماع بسيط يدوم ساعة من الزمن، وبمصاريف كبيرة تصل حوالي 150 مليون سنتيم لليوم الواحد، باحتساب سعر غرفة في فندق وتكلفة الإطعام والنقل عبر الطائرة وغيرها من المصاريف.
ولكن وبعد استفحال أزمة كورونا، تغيّر شكل التواصل وأصبح من الصعب التنقل بسبب انتشار الفيروس وإجراءات الحجر الصحي، لتتطوّر خلال هذه المرحلة العديد من التطبيقات الإلكترونية التي كانت في الأصل موجودة من قبل، لكن لم تكن مستغلة من قبل المسؤولين الجزائريين، على غرار تطبيق “الزوم” وتطبيقات أخرى طرحها “غوغل” اضافة الى “فيسبوك” الذي كشف عن تقنية جديدة عبر “مسانجر” من خلال تشكيل مجموعة والتواصل معهم عبر تقنية “الفيديو”التي تضمن الصوت والصورة.
واستفاد من هذه التقنيات الكثير من المسؤولين في البلاد خلال الأزمة الصحية من أجل ضمان استمرار نشاطهم، وتأكدوا حينها أن هذا التطبيق كان موجودا، لكن لم يكن مستغلا وكانت المليارات تُصرف على اجتماعات وملتقيات تعقد بطريقة تقليدية، لتتغير فجأة العديد من المفاهيم حيث أصبح من الممكن عقد اجتماع مصيري من المنزل دون عناء التنقل، كما سمحت تقنية التحاضر عن بعد من حل العديد من المشاكل العالقة عبر هذه التكنولوجيا الحديثة التي قلصت فاتورة التنقلات.
وكان أكثر ما ميّز هذه التقنيات ـ يضيف قرار ـ أنها بسيطة ولم تكلف الشركات مصاريف كبيرة، فالأشخاص الذين اعتمدوا هذه الطريقة، سواء عبر حواسيبهم أو هواتفهم الذكية من خلال منصة “الزوم”، لم يكلّفهم أزيد من اشتراك شهري يعادل 10 دولار أو 20 دولارا، كأقصى سعر من أجل عقد اجتماع، وهو ما يدخل ضمن المصاريف العادية.
ويشدّد الخبير على أن تقنيتي “زوم” و”غوغل ميت” تسمح لمشاركيها بتنشيط محاضرات مجانية ودخول 100 محاضر وألف مشارك بتكلفة 10دولارت فقط، وهذا ما كان يحدث في اجتماعات الرئيس عبد المجيد تبون بطاقمه الوزراي، ومعلوم أيضا أن تقنية التحاضر عن بعد، سمحت للكثير من المسؤولين في البلاد بعقد اجتماعات والاستمرار في نشاطاتهم اليومية دون عناء التنقل على غرار اجتماعات الولاة ومديري المؤسسات العمومية الذين يمكنهم متابعة كافة الأمور الإدارية وممارسة مسؤولياتهم دون توقف أو تعثّر بسبب منع السفر أو عقد اجتماعات تدوم لأكثر من يومين.
هذه القطاعات الأكثر اعتمادا على تقنية التحاضر عن بعد
وكانت أكثر القطاعات التي اعتمدت تقنية التحاضر عن بعد، خلال فترة كورونا هي التعليم العالي، فقد تم استغلال هذه التقنية لاستكمال البرنامج الدراسي للجامعات، أين كان الأستاذ المحاضر يلقى دروسا للطلبة عبر تقنية الفيديو، وأيضا المؤسسات الحكومية والخاصة بعدما تأكدت من استحالة استمرار عملها بصفة عادية نتيجة انتشار الوباء، وصعوبة تطبيق البروتوكول الصحي الأمر الذي دفعها إلى مطالبة عمالها بضرورة البقاء في المنزل والتواصل معهم عبر اجتماعات افتراضية.
وقامت الشركة بدفع تكاليف اشتراك المنصات الاجتماعات الافتراضية، من اجل ضمان سيرورة العمل دون انقطاع، ومن أبرز الاجتماعات التي تمت عبر هذه التقنية اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد في العديد من المرات عبر “الزوم” أو التحاضر عن بعد، إضافة الى الاجتماعات الدولية على غرار “أوبك” وعدة لقاءات للمنظمات الدولية التي كانت عضوا فيها.
وفي سياق متصل يقول الخبير يونس قرار، أنه تم حل العديد من الأزمات عبر هذه التكنولوجيا الحديثة، مضيفا “إلى جانب الاتصالات الرسمية، نجد ايضا أن العديد من الجزائريين الذين كانوا عالقين بالخارج نتيجة الأزمة الصحية تمكنوا من مشاركة عائلاتهم الأفراح والأقراح عبر تقنية التحاضر”،مضيفا “السؤال المطروح هل سيتم اعتماد هذه التقنية بعد زوال الفيروس”؟
صفقات تصدير التمور عبر “الزوم”
يروي رئيس جمعية المصدّرين الجزائريين علي باي ناصري، كيف كان أحد أعضاء الجمعية مهدّدا بخسارة صفقة لتصدير 20 حاوية من تمور “دقلة نور” بوسم جزائري نحو روسيا، بتاريخ 28 مارس 2020، بسبب غلق حركة النقل الجوي والبحري، في أعقاب تفشي فيروس “كورونا”، قبل أن يتفطّن إلى اجتماع مع الزبائن عبر تقنية التحاضر عن بعد، ليستدرك الصفقة في آخر لحظة، وتتم العملية بنجاح.
ويؤكد ناصري في تصريح لموقع”الشروق أونلاين” أنه قبل بداية تفشي فيروس كورونا، لم يكن المصدّرون يستعملون التقنيات الحديثة في التواصل، وكانت أغلب الانشطة والاتفاقيات الموقّعة تفرض تنقل وفد خاص لاستكمالها، لكن الأمور تغيّرت بعد فرض حجر صحي وأصبح من الضروري البحث عن وسيلة أخرى من اجل ضمان استمرارية العمل.
واعتمد المصدّرون لأول مرة شهر مارس 2020 ما يعرف بتقنية التحاضر عن بعد، من أجل استكمال عقود لتصدير التمورفي الجزائر وخارجها، عبر تقنية الفيديو و”الزوم”، ليتغيّر في أعقاب ذلك نمط عملهم، مضيفا: “شخصيا كانت لدي سكرتيرة خاصة كنت أتواصل معها عبر تقنية الزوم من اجل معرفة التطورات”، وأردف قائلا “هذه التقنيات الحديثة قلّصت الوقت وخفّضت المصاريف، حيث كنا نتفاوض للتصدير حتي من المنزل أو في السيارة لنجلب عقودا بملايين الدولارات”.
ويؤكد ناصري أن المصدرين يقومون أيضا بمتابعة مسار السلع التي تم تصديرها ومعرفة رأي الطرف الآخر فيها، عبر تقنية التحاضر عن بعد التي قال أن تكلفتها زهيدة جدا، ما يستدعي مستقبلا إعادة النظر في كيفية التواصل عبرها، والاعتماد عليها أكثر.
مقاطعة إسرائيل.. مجابهة “المخزن” ودعم فلسطين عن بعد
وفي سياق منفصل، يؤكد النائب السابق بالمجلس الشعبي الوطني، وعضو برلمان البحر الأبيض المتوسط، عمار موسي في تصريح لـ”الشروق أونلاين” أنه وفي خضم تفشي وباء كورونا، الذي فاجأ العالم، تفطن الكثيرون إلى ضرورة استعمال التكنولوجيا الحديثة بدل الاتصال المباشر، عبر تطبيق التباعد الاجتماعي، فكان الحل استعمال وسائل التواصل الإلكترونية بكل المؤسسات والإدارات ولجوء البنوك إلى الدفع الالكتروني، والجامعات والمدارس إلى التعليم عن بعد، كما نُظّمت العديد من الامتحانات من المنزل عبر تقنية “الزوم”.
ويقول موسي أن مؤسسات دولية خارجية منها برلمان البحر الأبيض المتوسط، الذي يعد عضوا به، اعتمد هذه التقنية شهر أفريل الماضي، للانتخاب والتصويت المباشر على عدد من القرارات، فكان فرصة للنواب الجزائريين للتعبير عن مواقفهم من خلال إعلان مقاطعة إسرائيل والانسحاب من ندوة افتراضية حول انعكاسات كورونا بتاريخ 2 أفريل المنصرم، وأيضا دعم فلسطين، والدفاع حقوق الشعب الفلسطيني خلال ندوة افتراضية حول الإرهاب، بتاريخ 10 أفريل، ومجابهة مكائد نظام “المخزن”، خلال نفس الندوة، فاتخذوا جملة من المواقف الدبلوماسية المشرفة، عبر مؤتمرات دولية حضروها فقط وفقا لتقنية التحاضر عن بعد.
الجزائريون مخيّرون بين 14 تطبيقا لـ “الفيديو كونفيرونس”
ويؤكد خبير التكنولوجيات الرقمية عثمان عبد اللوش، أن تقنية “الفيديو كونفيرونس” التي أصبحت مستعملة ومطلوبة بقوة في الجزائر، متاحة عبر 14 تطبيقا شهيرا، تسمح بعقد اجتماعات افتراضية بغض النظر عن المنطقة التي يتواجد فيها الشخص، وتفتح باب التفاعل بين المجتمعين.
ويشدد عبد اللوش على أن هذه التطبيقات هي “زوم” الذي يتصدر الاستعمالات في الجزائر، “سكايب للأعمال التجارية”، و”غوغل هانغوتس” و”سيسكو وابيكس” و”غاو تو ميتينغ” و”جوان مي” ومكتب “رينغ سونترال” و”كليك ميتينغ” و”أدوبي الإتصال” و”زوهو الإجتماع” و”الأمازون الرنين” و”هايفيفي”و”جيتسي” و”فري كونفيرونس”.
ويعتقد الخبير في التكنولوجيا الرقمية في إفادة لموقع “الشروق أونلاين” أنه في حين يعيش العالم ثورة رقمية حقيقية على جميع المستويات، كانت الجزائر متأخرة في هذا المجال، إلا أنه بحلول أزمة كورونا، تغيرت المعطيات وأصبح من الضروري التوجه نحو التقنيات الحديثة من اجل حل الأزمات، ومن بينها قضية الاتصال أوالتواصل التي تأثرت بشكل كبير خاصة بعد الغلق الكلي للحدود وحتى الغلق ما بين الولايات.
ويشدد عبد اللوش على أنه في مجال العمل، فكّر العديد من المسؤولين وأصحاب المؤسسات في كيفية ايجاد بديل لضمان سيرورة العمل وعدم التأثر بالأزمة الصحية، وهنا تم اللجوء الي الوسائط الإلكترونية المتاحة للاتصال عن بعد على غرار تقنية الفيديو حيث تم لأول مرة اعتماد هذه التكنولوجيا في الاجتماعات الكبرى وهو ما رأيناه خلال اجتماع مجلس الوزراء اضافة إلى الاتفاقيات الموقعة بين العديد من المؤسسات الحكومية تتقدمها سوناطراك، ومن بين الملفات التي تم إدارتها عبر تقنية الفيديو ندوات وزير الخارجية صبري بوقادوم، والذي عقد العديد من اللقاءات عبر التحاضر عن بعد، دون تكبد عناء التنقل في ظل الازمة الصحية.
وبالرغم من ذلك، يعترف عبد اللوش بوجود ضعف كبير في اعتماد هذه التقنيات الحديثة في الجزائر، رغم انها من الناحية المادية غير مكلفة، فتطوير البرمجيات لا يتطلّب أكثر من بضعة مهندسين وحواسيب وانترنت، كما انتقد التأخر الكبير لدى القطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية في تعميم التكنولوجيات الحديثة في عملها، حيث قال ان العديد من المؤسسات الكبرى في البلاد لاتزال تسير بطريقة تقليدية.
وبين الإيجابيات الكبرى، والنقائص المعدودة، والمشاريع المنتظرة لتطوير التواصل عن بعد واجتماعات “أونلاين” في الجزائر، تبقى الخطوة الأولى التي تم اتخاذها مع بداية تفشي فيروس كورونا، تنتظر العديد من الخطوات الموالية، لتطوير هذه التقنية التي وفّرت ملايين الدولارات في ظرف بضعة أشهر، خاصة بعد أن تأكد المسؤولون في الجزائر أنه لا مفر بعد اليوم من الرقمنة.
الشروق