تعدَّدت مَحاوِر اليوم الثاني والأخير من “مؤتمر الدراسات التاريخية” الذي نظَّم “المركزُ العربي للأبحاث ودراسة السياسات” دورته التاسعة، أمس واليوم، في الدوحة، تحت عنوان “الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستّين: إعادةُ قراءة لمسارها ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها”؛ حيثُ توزّعت أوراقُ الباحثين المشاركين ضمن محاورَ رئيسية؛ هي: “الثورة الجزائرية برواية فاعليها”، والتلقّي الأميركي للثورة الجزائرية”، و”الثورة الجزائرية في الذاكرة الفرنسية”.
وضمن المحور الأخير، قدّم الأكاديمي والباحث الجزائري مسعود دِيلمي ورقةً بعنوان “إشكالية التأريخ لحرب الجزائر وذاكرتها في فرنسا”، تناوَل فيها موضوع الكتابة التاريخية والذاكرة الفرنسية لحرب الجزائر كظاهرة تفاعلية، شارحاً سياقات مسارها الذي فرضته تناقُضات المجتمع الفرنسي، بإعطاء أهمّ توجهاتها، وأهمّ مراحلها، وإظهار صداها وتأثيراتها في الإنتاج التاريخي والعلمي.
يبدأ مسعود ديلمي ورقتَه حول “إشكالية التأريخ لحرب الجزائر وذاكرتها في فرنسا”، بالتمييز بين مفهومَي الذاكرة والتاريخ؛ مُعتبِراً أنَّ ذاكرةَ مجتمعٍ ما تُؤسَّس مِن خلال مجموعةٍ من الرموز، لأهداف سياسية واجتماعية. بهذا المعنى، تبدو الذاكرةُ أكثر اتّساعاً وشمولية؛ حيثُ التاريخ، والكتابة التاريخية، جزءٌ مِن عناصرَ عدّة تصنعُ الذاكرة.
يُشير الباحثُ والأكاديمي الجزائريُّ إلى غزارةِ وتنوُّع إنتاج الذاكرة الفرنسية المتعلّقة بالثورة الجزائرية؛ حيث يجري ذلك مِن خلال الأفلام والكتب والملتقيات، ومِن خلال الجمعيات التاريخية والاجتماعية والبرامج الدراسية. كما يُشير إلى تعدُّد الفاعلين في هذه الذاكرة: السُّلطاتُ الرسمية، وأنصارُ “الجزائر الفرنسية”؛ مِن معمّرين، وأعضاء في جيش الاستعمار الفرنسي، و”الحَرْكى” (جزائريّون موالون للاستعمار الفرنسي)، وأطراف مِن اليسار واليمين، فضلاً عن الجمعيات التي تأسَّس كثيرٌ منها منذ الستّينيات بهدف الدفاع عن “الإرث الفرنسي” في الجزائر.
وعند الحديث عن الثورة الجزائرية في فرنسا، فإنَّ أوّلَ ما يُثير الانتباهَ هو غيابُ المصطلحِ نفسه عن الأدبيّات الرسمية والأكاديمية والإعلامية الفرنسية؛ إذ يلفتُ المُحاضِر إلى أنَّ المصطلَح المستخدَم للتعبير عن الثورة التحريرية التي استمرّت سبع سنواتٍ ونصف (1954 – 1962) هو “حربُ الجزائر”. اعتُمد هذا المصطلَح رسمياً عن طريق تصويت البرلمان على تغيير مصطلَح سابق هو “حوادث ضبط الأمن”، وباتَ معتمَداً في الخطاب الرسمي، وفي وسائل الإعلام، وفي الكُتب والأبحاث التاريخية، الأكاديمية وغير الأكاديمية.
يُشير ديلمي إلى ما يسمّيه تشدُّد الفرنسيّين حين يتعلَّق الأمرُ بالمصطلَحات. وفي هذا السياق، يذكُر أنَّ المؤرّخين أنفسَهم لا يستخدمون أبداً مصطلَح “الثورة الجزائرية”؛ فإلى جانب “حرب الجزائر”، ثمّة منهم من يستخدم تعبير “حرب استقلال الجزائر”، وهناك مَن يراها “حرباً داخلية” أو “حرباً أهلية” فرنسية؛ بل إنَّ بعضَ الفرنسيّين أطلقوا تسمية “الحرب الجزائرية الثانية” على “العشرية السوداء” (الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر في التسعينيّات).
وهنا، يذكر المُحاضِر أنّ الكاتب الفرنسيَّ الوحيد الذي استخدم مصطلح الثورة الجزائرية هو أندريه موندوز (1916 – 2006) في كتابه “الثورة الجزائرية من خلال النصوص: وثائق جبهة التحرير الوطني” الذي صدر عام 1961.
يتوقّف مسعود ديلمي عند مراحلَ يعتبرها أساسيةً لفهم التحوُّلات التي شهدتها الكتابةُ التاريخية الفرنسية حول الثورة الجزائرية، ومِن ثمَّ التعاطي مع هذا الموضوع بشكلٍ عام في فرنسا، بدايةً من عقد الستّينيات الذي يقول إنّه لم يعرف اهتماماً مِن قِبل المؤرّخين والباحثين بحرب التحرير؛ حيثُ اقتصر ما صدر مِن كُتب على بعض الأعمالِ التي كُتبت للدفاع عن “الحرْكى” وتبرير مواقفهم المؤيّدة للاستعمار، أو التي كتبها عسكريّون معارضون لشارل ديغول، اعتبروا فيها خياراته في الجزائر “خيانةً” للجيش الفرنسي، وهو رأي – يؤكّد المُحاضِر – أنّه لا يزالُ موجوداً في فرنسا إلى اليوم. يصف ديلمي هذه الفترة بـ “مرحلة الحنين”؛ ورموزَها بـ “أنصار الجزائر فرنسية”.
نهاية الستّينيات ومطلع السبعينيات، تبدأ مرحلةٌ جديدةٌ يُسمّيها ديلمي “مرحلة الانتقال إلى التاريخ”؛ وأبرزُ أسمائها إيف كورير (1935 – 2012) الذي أصدر عام 1968 كتاباً مِن أربعة أجزاء بعنوان “حرب الجزائر”، وهو عملٌ يصفه المُحاضِر بأنّه “مِن أحسن الكتب التي أُلّفت عن الثورة الجزائرية وأكثرها دقّةً وشمولية، وقد تميّز بأسلوبه الصحافي البسيط، وأتاح معرفة كثير ممّا كان مجهولاً للقارئ الفرنسي”.
وتميّزت فترة الثمانينيات ببروز طبقةٍ جديدة من الباحثين الفرنسيّين المخضرَمين الذين عاشوا طفولتهم خلال الثورة وشهدوا استقلال الجزائر؛ ومِن بينهم بنجامين ستورا. يُلاحِظ ديلمي أنَّ التردُّد سيظلُّ يطغى على كتابة التاريخ بسبب هيمنة اليمين وأنصار “الجزائر الفرنسية” على الجامعة والإعلام والنشر، وهو أمرٌ سيستمرُّ، على نحوٍ ما، خلال التسعينيات التي شهدت إقامة ملتقيَين دوليَّين حول الثورة الجزائرية في فرنسا، لكنّه سيأخذ بالتغيُّر في مطلع الألفية الجديدة، مع فتح الأرشيفات، وتراجُع أنصار “الجزائر الفرنسية” إلى الخلف، لصالح جيل من المؤرّخين والباحثين يحمل فكراً جديداً، ولا يُراوده الحنين إلى “الجزائر الفرنسية” ولا يشعر بالنقمة على استقلال الجزائر.
يَعتبر ديلمي أنَّ الجيل الجديد تحرَّر من النظرة القديمة ونظَر إلى ماضي الدولة الفرنسية دون خوف أو خجل، وكتب عن الحرب وجرائم الاحتلال وقضايا التعذيب، مثلما كتب عن “المآسي” التي عاشها، بعد مغادرة الجيش الفرنسي، الجزائريّون المتعاونون معه، أو الفرنسيّون الذين تركوا كلّ شيء في الجزائر، مع قراءة كلّ ذلك في سياقه التاريخي.
يتحدّث ديلمي عن الثقل الذي يحظى به المؤرّخون، والمثقّفون بشكلٍ عام، في المشهد الفرنسي، قائلاً إنّ مواقفهم كثيراً ما تُسهم في تغيير سياسات الدولة، وهو ما يغيب في الجزائر؛ حيثُ “نجد أنّ المؤرّخ تابعٌ للسلطة، ولا يملك الحرية والجرأة”. يذكر المتحدّثُ، هنا، أنَّ بيانَين وقّعهما مثقّفون، في 2005، أجبرا الحكومة الفرنسية على إلغاء قانون “تمجيد الاستعمار” الذي سنّه البرلمان بهدف “نشر القيم الإيجابية التي حملها الاستعمار الفرنسي”.
ويخلص ديلمي، في ختام، محاضرته، إلى القول إنَّ الذاكرةَ الفرنسية حول الثورة الجزائرية هي ذاكراتٌ تتصارع بينها: “لا يجب أن ننسى أبناء الحرْكى، والفرنسيّين من أنصار “الجزائر الفرنسية”، والجزائريّين الذين شارك آباؤهم في الثورة، وأبناء المهاجرين الذين يرفضون النظرة الرسمية للتاريخ، وهؤلاء (أبناء المهاجرين) يُقبلون، بشكلٍ كبير، على دراسة التاريخ في المعاهد والجامعات، ويُنجزون بحوثاً في غاية الأهمية، لكنّها تبقى غيرَ مترجمة إلى العربية، ولا تُبدي الجزائر أيّ اهتمامٍ بها للأسف”، مُضيفاً أنّ هؤلاء “يتعرّضون للإقصاء والتهميش في فرنسا، كما في وطنهم الأصلي”.
العربي الجديد