بعد عقود من تغييب الكثير من الملفات الفظيعة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، عن البحوث التاريخية والتداول الإعلامي والسينمائي، برز بعضها إلى الواجهة مؤخرا، مثل استعمال السلاح الكيميائي في الكهوف لمواجهة الثورة، وكذا سلاح الاغتصاب الذي وظفه جيش الاحتلال ضد المناضلات من أجل ترهيبهن أملا في الحصول على المعلومات.
وفي سابقة، وبالتعاون بين صحيفة “لوموند” ومجلة “ديسيني” الفرنسيتين، تم توثيق بعض جرائم الاغتصاب التي وقعت أثناء الثورة التحريرية وتداعيات هذه الظاهرة على المجتمع الجزائري، في فيلم قصير يروي تفاصيل القنبلة التي فجرتها المجاهدة لويزة إيغيل أحريز، في وجه ضباط وجنود جيش الاحتلال، وبالضبط مظليي العاصمة، وعلى رأسهم النقيب المجرم، غرازياني.
عنوان الفيلم “لويزات” في إشارة إلى المجاهدة إيغيل أحريز، وهو يحكي تفاصيل القبض على المجاهدة التي اسمها الحركي “ليلى” في عام 1957.. كانت أحريز قد تم نقلها إلى مقر الفرقة العاشرة للمظليين التابعة للجيش الفرنسي في حيدرة، والتي كان يقودها الجنرال ماسو، بعد ما تم القبض عليها إثر تعرضها لإصابة بليغة.
يروي الفيلم على لسان امرأة مثلت المجاهدة إيغيل أحريز: “كنت جريحة، ومع ذلك كان يتردد بشكل يومي نقيب اسمه غرازياني، من أجل التحقيق معي.. كان يبحث عن أسماء علّه يعثر على معلومات..”، يحدث هذا في الوقت الذي كانت فيه المجاهدة تئن من ألم الإصابة البليغة التي كانت تعاني منها.
ينقل الفيلم حقائق صادمة عن فظاعة الاغتصاب، على مدار ثلاثة أشهر كاملة وهي محرومة من ملابسها، كانت أحريز تتعرض للاستنطاق يوميا وما يرافق ذلك من ممارسات وحشية.. ثم يأتيها ضابط آخر في عمر أبيها، ويعدها بالعلاج، مقابل تركها للحرب، لأن النساء كما جاء في الفيلم، لم يخلقن من أجل الحرب، لكنها ترد عليه بأنفة قائلة إنها تفضل الموت على أن تثنيها فرنسا وجنودها على التخلي عن قضيتها.
بعد ذلك، تعود فصول الفيلم إلى أكثر من عشرين سنة، حينما اتصلت فلورانس بوجي ابنة عسكري سابق في جيش الاحتلال، الصحفية بيومية “لوموند” الفرنسية، من أجل إجراء حوار مع المجاهدة إيغيل أحريز.. تؤكد تفاصيل الفيلم أن حديث لويزة إيغيل أحريز، إلى فلورانس بوجي، المختصة في “حرب الجزائر”، كما يسميها الفرنسيون، ما لا يقل عن 15 ساعة، قبل أن تنخرط في سرد قضيتها لأول مرة.. قضية الاغتصاب.
يومها يومية “لوموند”، اختارت أن يكون حوار المجاهدة الجزائرية، على صدر صفحتها الأولى، مفجرة فضيحة لم يسبق أن تم تداولها في وسائل الإعلام الفرنسي.. تحدثت عن أشياء جد فظيعة.
ولم تمر الحادثة من دون أن تخلف هزات في مستوى الفظاعة التي ارتكبها المظليون الفرنسيون، بحق شابة جزائرية جريحة.. اتصل الجنرال بيجار بـ”لوموند”، وهدد مسؤولي الصحيفة بتركيعهم، متسائلا عن خلفية نشر ذلك المقال بعد نحو 45 سنة من الحادثة، معتبرا ذلك إساءة إليه رغم كل ما قدمه للدولة الفرنسية.
تبعه الجنرال ماسو، المسؤول المباشر على فرقة المظليين، لكنه تأسف عن ممارسة التعذيب بحق الجزائريين، وإن حاول تبرير اللجوء لذلك كون القضية كانت تتعلق بحرب خرجت عن النطاق من الجانبين (!!!)
ثم ينتقل الفيلم بعدها إلى تقديم شهادة لشخص قدم نفسه بـ”محمد كارن”، وهو ابن امرأة جزائرية جاء نتيجة اغتصاب فتاة جزائرية في سن الـ15 سنة، وقد بحث عنها مطولا، ليكتشف بعدها أنها توفيت، وهي الحادثة التي نقلها الفيلم ليؤكد بأن جرائم الاغتصاب التي ولغ منها الفرنسيون في الجزائر، لم تبدأ في سنوات الثورة السبع، وإنما تعود إلى السنوات الأولى للاستعمار بداية من عام 1830، لكنها كانت ممنهجة خلال الثورة التحريرية.
الفيلم ينقل شهادة على لسان محامية الثورة، جيزال حليمي، مفاده أن 9 من 10 نساء يعتقلهن المظليون الفرنسيون، يتعرضن للاغتصاب أثناء التحقيق، وفي ذلك تدمير لحياة المغتصبات، لأن تقاليد المجتمع الجزائري ترفض تزوج النساء المغتصبات، ورغم فظاعة الاغتصاب إلا أن تقرير بنجامان ستورا الذي أودعه في جانفي 2021 لدى الرئاسة الفرنسية، لم يشر إلى ذلك إلا مرة واحدة، يؤكد الفيلم.
بقلم: محمد مسلم
الشروق