كثر حديث المسؤولين في أوروبا وفي الولايات المتحدة مؤخرا عن متاعب يواجهها الاقتصاد التونسي وعن انهيار قريب لنظامها المالي، أسوة بما حدث في دول أخرى، إلا أن ذلك لم يوهن من عزيمة التونسيين الذين أدركوا أن الأزمة التي تعيشها بلادهم هي جزء من أزمة عالمية، وأن تونس تمتلك أوراقا كثيرة يمكن أن تفرشها على الطاولة في أي لحظة.
وبعد فشل آخر محاولات الولايات المتحدة ومن خلفها الاتحاد الأوروبي لتأجيج الرأي العام ضد تونس، مستغلة تصريحات للرئيس التونسي قيس سعيد تتعلق بالمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين أخرجت عن محتواها، كان على الأوروبيين أن يغيروا من سياساتهم، وأول تلك السياسات فك الارتباط عن واشنطن فيما يتعلق بالشأن التونسي.
صحيح أن المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية باولو جنتيلوني في زيارته الأخيرة إلى تونس اشترط لتقديم أيّ دعم مالي لتونس من دول الاتحاد أن يتم أولا التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي والمشروط بتطبيق حزمة من الإصلاحات أهمها رفع الدعم الحكومي عن المحروقات وعن مواد غذائية أساسية وتخفيض كتلة الأجور، إلا أن مسؤولين في إيطاليا وفرنسا دعوا إلى تحرك أوروبي جماعي من أجل تحقيق استجابة سريعة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتقديم الدعم اللازم لتونس، محذرين من انهيار مالي، ومن تدفقات قياسية للمهاجرين القادمين عبر سواحلها هذا العام.
“قوارب الحرقة” هي كلمة السر وجوهر الهاجس الأمني لدول أوروبية تخشى موجات قياسية من قوارب محملة بالمهاجرين الأفارقة ترسو على شواطئها. وتريد، علنا أو تلميحا، أن تحمّل تونس مهمة إزالة الآثار الناجمة عن مئة عام من ماضيها الاستعماري الذي لا يمكن بأيّ حال وصفه بالأبيض.
الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على الحكومة التونسية كانت لتنطلي على الكثيرين، لكنها كما هو متوقع لم تنطل على تونس التي حافظ المسؤولون فيها على هدوء أعصابهم بعد أن تيقنوا من تفهم الشارع التونسي للظرف الاستثنائي الذي تعيشه البلاد، والأهم أن الحالة التونسية هي جزء من حالة طالت دول العالم. والأهم أن تونس بما تمتلكه من إمكانيات ذاتية ومن كفاءات قادرة مستقبلا على الخروج من الأزمة التي تواجهها.
التونسيون الذين خرجوا إلى الشارع متظاهرين في 29 ديسمبر 1983 عندما أعلنت حكومة محمد مزالي بضغط من صندوق النقد الدولي الذي طالب تونس بتطبيق خطّة تقشّف، لم يخرجوا إلى الشارع اليوم رغم ارتفاع الأسعار الذي طال الكثير من السلع، تاركين المعارضة ومعها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في حيرة من أمرهم.
تونس ليست مضطرة لتتحول إلى شرطي يحرس المياه الأوروبية ويمنع تدفق اللاجئين إلّا لدواع إنسانية وتلافيا لحوادث غرق يروح ضحيتها مهاجرون حالمون بالوصول إلى الشواطئ الايطالية، فهي ليست مسؤولة عما آل إليه حال الأفارقة الساعين إلى “الحرقة”.
أفضل ما يمكن لدول الاتحاد الأوروبي عمله هو التوقف عن إلقاء المحاضرات، وتقديم النصائح نقلا عن صندوق النقد الدولي، عليهم الإصغاء ليس فقط إلى مخاوف التونسيين، بل إلى مخاوف الدول الأفريقية مجتمعة. وبدلا من التعامل مع القارة السمراء على أنها مصدر لتدفق الهجرة غير الشرعية، يجب التعامل معها من خلال ما توفّره من فرص للتنمية.
كانت أوروبا خلال السنوات الثلاث الأخيرة بطيئة جدا في إدراكها للمتغيرات التي تحدث في العالم. لم يعد العالم محكوما من قطب واحد، هناك قطب آخر يتشكل تقوده الصين ومن ورائها روسيا، وهما على أتم الاستعداد لسدّ أيّ فراغ تتركه الولايات المتحدة والدول الأوروبية وراءها.
أخيرا استفاقت أوروبا لتدرك أنها في حاجة إلى تونس أكثر من حاجة تونس إليها. ليس فقط لحماية حدودها، بل لكونها بوابة يمكن من خلالها العبور إلى الدول الأفريقية.
يجب على أوروبا أيضا ألاّ تنسى أن هناك دينا عليها تعويضا عن أكثر من مئة عام من الاستعمار الأوروبي للقارة الأفريقية. وما يحتاجه الأوروبيون اليوم هو امتلاك الشجاعة لتحمل مسؤولية ما ألحقوه من أضرار بالقارة الأفريقية.
لا تحتاج أوروبا إلى درس في التاريخ، ما تحتاجه هو درس في الأخلاق، وإلى من يذكّرها بضرورة تحمل مسؤوليتها عن فصل مظلم أدى إلى الأوضاع الصعبة التي آلت إليها أحوال الأفارقة.
لننسى نهب الثروات، ونتحدث عن تدمير المناخ. أفريقيا رغم أنها أقل مسبب للانبعاثات التي ألحقت الضرر بالبيئة، تتحمل فاتورة تكاد تكون الأضخم نتيجة هذه الانبعاثات؛ قد تصل إلى 4.8 تريليون دولار بحلول عام 2050.
لم يكن المال عائقا عندما احتاجت أوروبا إعادة بناء مدنها إثر الحرب العالمية الثانية، ولم يكن عائقا بعد زوال جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا الشرقية والغربية، ولم تبخل ألمانيا حينها بأرقام فلكية، بلغت حسب تقديرات الخبراء نحو 2000 مليار يورو، تم ضخّها إلى الجزء الشرقي من ألمانيا في السنوات الـ25 الأولى للوحدة.
بهذا المبلغ تم تمويل “بناء الشرق”؛ تشييد الطرق وترميم المدن وإزالة أضرار التلوث البيئي وتقديم حوافز استثمارية للشركات. لكن الجزء الأكبر من تلك الأموال، حوالي 65 في المئة، ذهب لدفع رواتب التقاعد والنفقات الاجتماعية، مثل مساعدة العاطلين عن العمل ودعم الأطفال وخدمات اجتماعية أخرى.
والآن يشترط مسؤولون في دول الاتحاد الأوروبي لمساعدة تونس أن تتخلى عن سياسات الدعم التي تنتهجها وتمتثل لإملاءات صندوق النقد الدولي التي اشترطها للموافقة على منحها قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار يدفع على أربع سنوات، ومن بين هذه الشروط رفع الدعم عن المحروقات وعن مواد غذائية أساسية..
أيّ وصفة انتحارية هذه وفي ظرف استثنائي يشهده العالم! بالطبع لا ترفض تونس إجراء الإصلاحات، كمبدأ، ولكنها ترفض أن تملي عليها أطراف خارجية كيفية إجراء تلك الإصلاحات والزمان الأنسب لها. فهي ترى أن الوقت غير مناسب حاليا، وأن هناك الكثير ممّا يجب عمله أولا.
هناك أكثر من دليل على أن الأوروبيين بدأوا يدركون أن القروض، ومن بينها قروض صندوق النقد الدولي، إن حلّت مشكلة، ستخلق مشاكل، وأن على دولهم التي تقع على بعد مرمى حجر من شواطئ شمال أفريقيا أن تتحرر من هيمنة الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، وأن تفي بالتزاماتها تجاه تونس والدول الأفريقية، فهي جزء من دين عليها.
بهذه الطريقة فقط يمكن أن يتحول كابوس “قوارب الحرقة” الذي يخشاه الأوروبيون، إلى فرصة تنمية تستفيد منها جميع الأطراف.
أخيرا، قد ينفع الحضور الصيني والروسي والتسلل الإيراني إلى القارة الأفريقية الأوروبيين، ويذكرهم بواجبهم تجاه تونس التي تخلوا عنها في أزمتها.. وإلّا بماذا نفسر قول المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية “لا يمكن أن نقبل أن تتحمل تونس بمفردها تبعات هذه الإشكالية”.
بقلم علي قاسم
صحيفة العرب