حتى بعد ستين سنة من انتهاء حلم “الجزائر فرنسية”، لا يزال بعض الفرنسيين، والأكاديميين منهم على وجه التحديد، غير قادرين على تجاوز صدمة الهزيمة العسكرية والسياسية والأخلاقية الفرنسية في الجزائر.
وتحت عنوان “هل رتب الجنرال ديغول نهاية الجزائر فرنسية”، أنجزت مجلة “لوفيغارو إيستوار”، حوار مطولا مع المؤرخ الفرنسي، هنري كريستيان جيرو، الذي يعتبر أحد أبرز المختصين في تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر، بدا من خلاله وكأنه يبكي مصدوما على كل ما فقدته بلاده، ليس هذا فقط، بل إنه يتحدث أيضا عن الإهانات التي لحقت بفرنسا في الجزائر، قبل الاستقلال وحتى بعده وإلى غاية أيامنا الراهنة.
المجلة أبرزت في واجهتها عنوانا مثيرا “الغروب الدامي للجزائر الفرنسية”، حمل صورا لحشود من الأقدام السوداء وهم يغادرون ميناء الجزائر عبر باخرة متجهين نحو فرنسا، فيما نقلت تصريحات قوية لهذا المؤرخ يتهم فيها الجنرال شارل ديغول الذي حكم فرنسا ما بين 1958 و1968، بالتفريط في المستعمرة السابقة.
المؤرخ اتهم ديغول بإهانة فرنسا، وهو الأمر الذي تأسف له لكونه قد “لا يعجب” أنصار هذا الرمز الفرنسي، لكنه استدل بكتاب السفير الفرنسي بالجزائر السابق، كسافيي دريانكور، والمعنون “اللغز الجزائري”، والذي اعترف فيه مؤلفه بأنه “كان يتعرض للإهانة في الجزائر بشكل يومي تقريبا”. وبرأي الأكاديمي الفرنسي، فإن ديغول حول الانتصار العسكري على الثورة التحريرية، على حد زعمه، إلى “فشل كبير”، وقال: “لقد أصبحنا فائزين مزيفين”.
مؤلف كتاب “الجزائر: الفخ الديغولي”، زعم أن الجنرال شارل ديغول جاء إلى السلطة من أجل إنجاز مهمة واحدة ورئيسية، وهي “منح الاستقلال للجزائر”، رغم معارضة غالبية الفرنسيين لذلك، مستندا إلى استفتاء قال إنه أجري في فرنسا بعد وصول ديغول للسلطة، أفرز 52 بالمائة من الأصوات تؤيد بقاء الجزائر فرنسية.
وقال المؤرخ الذي يبدو أنه من المؤيدين بقوة للأقدام السوداء “كان كل شيء يسير بشكل عادي إلى غاية خطابه (دي غول) في سبتمبر 1959، عندما تحدث عن استفتاء تقرير مصير الشعب الجزائري بعبارته الشهيرة “لقد فهمتكم”.
هنري كريستيان جيرو نقل عن عالم الاجتماع الفرنسي، ألفريد صوفي، صاحب مصطلح “العالم الثالث”، الذي نقل بدوره شهادة للجنرال ديغول في عام 1954، قبل اندلاع الثورة التحريرية، قوله “إذا استمرار تمسك فرنسا بالجزائر سيكلفها أعباء مالية كبيرة، لأن الجزائر في ذلك الوقت، لم تكن ذات مردودية كبيرة، لأن النفط يومها لم يكتشف (اكتشف في عام 1956)، وأنها مقبلة على انفجار ديموغرافي كبير، وهذا من شأنه أن يقود إلى هجرة نحو فرنسا ما قد يؤدي إلى إحداث خلل في المجتمع الفرنسي بسبب الدين الإسلامي، فضلا عن أن ممثلي الجزائر قد يصل إلى 100 نائب في البرلمان الفرنسي”.
ويضيف المؤرخ في الحوار: “ما هو مؤكد هو أنه قبل 30 جوان 1955، تحدث ديغول في ندوة صحفية عن ارتباط الجزائر بفرنسا عن طريق كومنويلث على غرار ما هو حاصل مع المستعمرات البريطانية، أي ارتباط محدود، ولذلك منذ وصوله إلى السلطة عمل على التفاوض مع ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ومع جبهة التحرير، على أساس الاستقلال، بالرغم من أن الحكومة المؤقتة ليس لها أرض ولم تكن منتخبة، وكانت تحكم الجزائريين عبر الخوف”، على حد زعمه.
وقدر المؤرخ بأن “ديغول كان له توجه نحو معالجة الأمور عبر السبل السياسية، ولذلك سعى إلى تضخيم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من أجل خلق مفاوض يحظى بالمصداقية”، وهو التوجه الذي لقي معارضة شديدة من قبل المعمرين الذين يمثلهم الجنرال ماسو، وهو من الأقدام السوداء، ولذلك استدعاه إلى فرنسا، الأمر لا يمكن أن يتقبله جنرال مثل ماسو. وكان ديغول يحضر للانفجار الذي كان يبحث عنه، فحدث الانقلاب عليه، وكان ذلك تحت أعين الأمن العسكري، ما ساهم في إفشاله منذ البداية، وقد علم به قبل أربعة أيام من وقوعه، وفق شهادة ميشال دوبري”.
وفي سابقة، تحدث المؤرخ عن الفرنسي عن أن “الجزائر كبدت فرنسا ما بين 1962 و1969 في عهد ديغول، نحو 22 مليارا و200 مليون دولار، فضلا عن الامتيازات التي منحتها اتفاقيات إيفيان للجزائريين مثل التنقل بحرية بين البلدين، معتبرا تلك الاتفاقيات مصدرا لأزمة الهجرة التي تعانيها بلاده اليوم”، وفي الأخير يضيف المؤرخ: “يطالبنا الجزائريون بالاعتذار” عن جرائم الاستعمار في الجزائر.
بقلم: محمد مسلم