بعيدا عن أنظار ومسامع الجميع، اتخذ المواطن التونسي محمد بن نتيشة ابن محافظة قفصة (الجنوب الغربي) لنفسه غرفة فوق سطح منزله خصصها لبناء عالمه الخاص وجمع وحفظ كل ما يتعلق بالتراث المنجمي المادي واللامادي لمنطقته.
تضم الغرفة ثروة منجمية لا تقدر بثمن تحكي نضال فئة من عامة الشعب، من أوان لحفظ الطعام وقوارير لحفظ مياه الشرب وفوانيس وأجهزة اتصالات وهواتف وخوذات وأواني طعام وفوانيس ومفروشات وأختام وغيرها من مكونات الحياة اليومية التقليدية لعمّال “المينَة” (المناجم).
يسكن محمد في معتمدية (حكم محلي) المتلوي وهي إحدى مناطق الحوض المنجمي الذي ينتمي إداريا لمحافظة قفصة، حيث تم اكتشاف ثروة الفوسفات التي تزخر بها المنطقة في سنة 1883 على يد المستعمر الفرنسي، والتي تشهد مدا وجزرا إلى اليوم من حيث الإنتاج والتسيير.
غرام منذ الصغر
عاد بن نتيشة (46 عاما) من إيطاليا إلى مسقط رأسه عام 2004 محملا بأفكار إيجابية بعد معاينته للقيمة العليا التي يوليها الأجانب لتراثهم المنجمي خاصة أنه مغرم منذ الصغر بكل المفاهيم والمتعلّقات التقليدية القديمة، فشرع في تجميع كل الأدوات والصور والأرشيف المتعلقة بالحياة اليومية لعمال المناجم.
وللتعمق أكثر في الموروث الثقافي والاجتماعي لمنطقة الحوض المنجمي، شارك بن نتيشة في عدة دورات تكوينية في مجال التراث المنجمي والآثار القديمة تحت إشراف ومساعدة دكاترة في علم الآثار والتراث المادي واللامادي.
إقبال واستحسان
ظل محمد يجمع المقتنيات ويحفظها في غرفته ويقوم بصيانتها وبإصلاح بعضها الآخر حتى ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 عندما قرّر تأسيس وترؤس جمعية المحافظة على التراث، رغبة منه في مشاركة أبناء منطقته هوايته وإطلاعهم على ثراء منطقة الحوض المنجمي.
وبمبادرة خاصة منه، قام محمد بعدة أنشطة ثقافية في عدة مدارس ودور ثقافة وشباب وعرض فيها للزوار من مختلف الأعمار كل ما جمعه من متعلقات الذاكرة المنجمية حيث لاقت مبادرته إقبال واستحسان الجميع.
ويسعى من خلال فكرته إلى تسليط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ منطقة الحوض المنجمي وعلى تفاصيل الحياة اليومية لعمّال المناجم الذين يمثلون نسبة مهمة من سكان محافظة قفصة بهدف حفظها للأجيال المقبلة.
كان محمد في بداية إطلاق فكرته، يجمع أدوات الحياة المنجمية من الأقرباء والأصدقاء ثم تحول في مرحلة ثانية إلى اقتنائها من عمال مناجم سابقين ومن مواطنين عاديين حتى أنه “يدفع أموالا للحصول عليها بعد علم أصحابها بأهمية قيمتها المعنوية”، يعلق ضاحكا.
تضحية وقطع نادرة
يواجه بن نتيشة صعوبة أحيانا في توفير الأموال لشراء عدة قطع نادرة خاصة مع استغلال أصحابها الظرف ورفع أسعارها “لكني أضحي في سبيل الحصول عليها حتى أني تخليت مرة عن شراء خضر ولحم لأسرتي واقتنيت إحداها”، حسب قوله.
وأكثر ما يؤلمه، هو عندما يعجز عن شراء أي قطعة نادرة ذات قيمة معنوية عالية تروي تاريخ الحياة المنجمية لمحافظة قفصة وبدايات اكتشاف الثروة المنجمية في المنطقة منذ عهد الاستعمار الفرنسي لتونس.
وإلى جانب حفظ الموروث المنجمي لمحافظته، كان محمد بن نتيشة مصدرا رسميا للمعلومات لعدة طلبة حيث ساعدهم ومدهم بكل الوثائق والمعطيات والأرشيفات المتعلقة بمجال دراستهم وتخصصهم في الآثار وتاريخ المناجم فأحسن استقبالهم ومعاملتهم في معرضه المنزلي.
ويطمح محمد لجمع أكثر عدد ممكن من مقتنيات الذاكرة المنجمية ولأن يوليها المواطنون القيمة التي تستحق وأن تلقى مزيدا من الدعم والتشجيع خاصة أن قيمتها المعنوية لا تقدر بثمن، لأنها تروي حقبة تاريخية مهمة لنضال منطقة الحوض المنجمي التونسية ضد الفقر والتهميش.