“يرتفع ضغط الدم، ويرتفع السكر، ثم يخبرونك أنك في حاجة إلى جلسة غسيل كلوي.. تذهب للجلسة الأولى. ثم بمرور الوقت، تدرك أن هذه أصبحت حياتك، وتبدأ فيالتخلى عن طموحاتك وأحلامك”.
هكذا تقول التونسية ألفة معَّلَى وهي تستعد لبدء رحلة المعاناة من منزلها إلى مستشفى أمراض الكلى بتونس العاصمة. تقطع ألفة الرحلة من بيتها إلى المشفى 3 مرات أسبوعيا منذ 30 عاما. وتقضي ما بين 4 و 5 ساعات في كل زيارة. وباستخدام مهارات الحساب، يتبين أن ألفة قضت أكثر من 20 ألف ساعة على أجهزة الغسيل الكلوي. ألفة هي واحدة من مئات الآلاف الذين يعانون من مرض الفشل الكلوي في العالم العربي وتعتمد حياتهم على أجهزة تصفية الدم. تقول ألفة: “تقابل العديد من الناس في جلسات الغسيل الكلوي، هناك المتشائم والمتفائل، ولكن في العموم، عندما نسمع عن وفاة شخص منهم، نتفق جميعنا على أنه قد ارتاح من هذه المعاناة”.
القصور الكلوي في المغرب
كشف المسح حول انتشار وعوامل الخطر لمرض الكلى المزمن (MaReMar) ، وهو أكبر مسح في القارة الأفريقية والعالم العربي، أجري في المغرب، معطيات مقلقة عن المرض. وأظهر المسح أن أمراض الكلى المزمنة تظهر في 2.9٪ من السكان البالغين. وأسبابه الرئيسية هي مرض السكري (32.8٪) ،وارتفاع ضغط الدم (28.2٪)، حصى المسالك البولية (9.2٪). وأظهرت الدراسة أيضًا أن عوامل الخطر الرئيسية لظهور مرض الكلى المزمن تكمن في 16.7٪ من السكان البالغين لارتفاع ضغط الدم، و 13.8٪ من السكان للإصابة بمرض السكري و 23.2٪ من السكان بسبب السمنة. كما تمت دراسة عوامل التعرض الأخرى التي قد تعزز تطور مرض الكلى المزمن.
ويتعلق بشكل رئيسي بإساءة استخدام النباتات الطبية الموجودة في 2.9٪ ، والإفراط في استخدام الأدوية المسكنة وعدم وصفها في 4.7٪ ، والتدخين في 4.7٪. وتؤكد البروفيسور أمال بورقية، أخصائية أمراض الكلي وتصفية الدم، ورئيسة الجمعية المغربية لمحاربة أمراض الكلي، في حوار مع وكالة المغرب العربي للأنباء(مارس 2021)، بمناسبة اليوم العالمي للكلي (11 مارس من كل سنة) أنه في الواقع فمرضى القصور الكلوي، هم شريحة “هشة”، معرضة لكل أنواع التأثيرات الخارجية، العضوية أو النفسية، وهنا تطرح بإلحاح كيفية تعايش المريض مع وضعه الصحي مع بعد الإصابة، إن تعلق الأمر بالحرص على متابعة حصص التصفية بشكل دوري أو ارتبط بضرورة انخراط المريض في حياة مجتمعية “نشطة” وممارسة أنشطة مصاحبة من قبيل القراءة والكتابة والرسم والموسيقى والشعر ومزاولة العمل الجمعوي.
وتضيف بورقية أن الحديث عن مرضى القصور الكلوي الحاد والمزمن، لا يرتبط بمعاناة هذه الفئة من أجل الولوج إلى التطبيب والحصول على التأمين الصحي للاستفادة من تصفية الدم بشكل منتظم فحسب، وإنما يرتبط أيضا بضرورة استفادة هذه الشريحة من الدعم النفسي، خاصة في ظل تفشي جائحة كوفيد-19، وهذه مسألة غاية في الأهمية، تفرض على المحيط الأسري للمريض توفير كل السبل المواتية حتى يتعايش مع مرضه بنجاح ويسهل قابليته للاستئناس مع مرض مزمن وحاد.
القصور الكلوي في تونس
وفقًا لآخر إحصاءات وزارة الصحة التونسية يبلغ عدد المصابين بالفشل الكلوي نحو 10 آلاف مريض، وتتزايد أعداد هؤلاء بنحو 1500 مريض سنويا. وهي زيادة لا تتناسب مع عدد أجهزة الغسيل الكلوي المتوفرة؛ حيث تمتلك تونس حوالي 100 وحدة لغسيل الكلى فقط، بمعدل 4 أجهزة لكل محافظة، ويقتصر توفرها غالبا على مراكز المدن، ما يعني اضطرار كثير من المرضى للسفر من أجل جهاز يعتمد عليه بقاؤهم على قيد الحياة، أما ألفة فازدادت معاناتها بعدما فقدت بصرها. وعن ذلك تقول ألفة، وهي تدعو الله أن تسامحها أمها على إشراكها في معاناتها: “بعدما فقدتُ بصري منذ 4 سنوات، أصبحت أعتمد على أمي في كل شيء، أصبحت هي عيني”. تقول ألفة: “بعدما فقدتُ بصري منذ 4 سنوات، أصبحت أعتمد على أمي في كل شيء، أصبحت هي عيني”. ويكلف علاج مرض الفشل الكلوي خزينة الدولة التونسية حوالي 30 مليون دولار، أما بالنسبة للمريض، فالتكلفة تتجاوز ثمن جلسات العلاج، وتقول ألفة أنه بعد “مصروفات الجلسات وثمن الأدوية التي لا يمكن الاستغناء عنها، مثل أدوية الضغط والسكر وتكلفة العمليات المتكررة الناتجة عن تعب الجسم من الغسيل”، لا يتبقى لها ما يكفي من المال لتعيش حياة طبيعية. ويأتي الإنهاك النفسي ليزيد على المادي، وعن ذلك تقول ألفة: “يصيبني الاكتئاب بشكل دوري، ثم أحاول التغلب عليه وأستعيد الأمل لإكمال الطريق”.
القصور الكلوي في الأردن
تتشابه معاناة مرضى الفشل الكلوي في المنطقة العربية، حيث الهوة واسعة بين أعداد المرضى وما يتوفر من تجهيزات؛ ففي الأردن يتزايد عدد من يحتاجون لتصفية الدم بنحو ستمائة مريض سنويا. تغيرت حياة محمد، الذي يعمل مهندسا معماريا في الأردن، بشكل جذري، منذ سنتين حينما اكتشف إصابته بالفشل الكلوي، ويقول محمد : إن “غسيل الكلى يحد من وقتك اليومي بشكل كبير، ما يؤثر على عملك، وهواياتك، وحياتك الاجتماعية، فيصبح الغسيل الكلوي هو الأساس، ويتمحور حوله كل شيء آخر في حياتك”. وفي ظل صعوبة إجراءات عملية زراعة الكلى في الأردن، يتقلص أمل محمد في العثور على مخرج من المعاناة، فأمل محمد هو أن تتبنى الأردن سياسية قائمة الانتظار، وأن يتم رفع الوصم عن التبرع بالأعضاء بعد الوفاة، فقد يكون ذلك “نهاية لمعاناة الكثيرين”، على حد قوله. وحتى حين انفراج أزمة محمد، لا سبيل أمامه سوى للتحمل والمثابرة، ولذلك تبنى روتينا طبيعيا أثناء جلساته، وبدأ العمل على تصاميمه الهندسية من سرير الغسل الكلوي.
الفشل الكلوي في مصر
وفي مصر، تزداد أعداد الإصابة بالفشل الكلوي مقارنة بالنسب العالمية، فوفقا للجمعية المصرية لأمراض وزراعة الكلى تصل نسبة من هم في احتياج للغسيل الكلوي إلى 650 حالة لكل مليون، وهو أكثر من ضعف النسبة العالمية. وتصل نسبة الوفاة لأكثر من 25 في المئة من المصابين مقارنة بالنسبة العالمية والتي تبلغ نحو 10 في المئة، ولكن هل تعكس هذه الأرقام واقع الحال؟ يقول أستاذ الباطنة وأمراض الكلى بكلية طب سوهاج وعضو مجلس الإدارة بالجمعية المصرية لأمراض وزراعة الكلى، عليالقرياتي، إن “الدول العربية لا تتوافر فيها الأدوات والإمكانيات للوصول إلى أرقام فعلية صحيحة، لكن الجهود الحكومية مستمرة للوصول لإحصائيات أكثر دقة”. ويضيف أن “المناطق الأفقر هي الأكثر من حيث نسبة المصابين بالفشل الكلوي”.
لماذا تتزايد أعداد مرضى الكلى في الدول العربية؟
يجيب أستاذ أمراض الكلى، عليالقرياتي، عن ذلك السؤال بالقول إن “الأسباب الثلاثة الرئيسية للإصابة بالفشل الكلوي هي: ارتفاع ضغط الدم، والإصابة بمرض السكري، والإفراط في تناول المسكنات والمضادات الحيوية”. ويوضح أن ارتفاع ضغط الدم هو مرض “قد يأتي بدون أي أعراض”، مشيرا إلى أن الثقافة العلاجية في العالم العربي تتعلق دائما بالأعراض، “فلا يذهب مريض الضغط إلى الطبيب لانعدام شعوره بأعراض، وبالتالي لا يحصل على علاج، ما يؤدي إلى تداعيات صحية خطيرة، من أهمها الفشل الكلوي، وهي مشكلة تظهر بشكل أكبر في المناطق الأكثر فقرا”، حيث تزداد نسب الإصابة بذلك المرض. ويأثر ارتفاع نسبة السكر في الدم عند المصابين بمرض السكري سلبا على وظائف الكلى، وهو ما يؤدي إلى الإصابة بالقصور الكلوي إذا لم تتم معالجته. ويقول د. القرياتي، إن الإفراط في تناول المسكنات والمضادات الحيوية أصبح سببا من الأسباب الأساسية للإصابة بالفشل الكلوي في الفترة الأخيرة. وهو ينصح بعدم تعاطي المسكنات والمضادات الحيويةمن دون استشارة طبيب، وهو الأمر الذي يرى أستاذ الكلى أنه “يحتاج إلى تقنين” لتقليل أعداد الإصابة. وأضاف القرياتي أن الفترة الأخيرة شهدت تفشي حالات الإصابة بالفشل الكلوي بين شباب أصحاء في مصر لا يعانون من أمراض أخرى كالضغط والسكر، ولكن “بعد بحث الأطباء تبين أن تلك الحالات أصيبت بسبب تعاطي المخدرات المختلفة المنتشرة الآن في شوارع مصر مثل الترامادول وغيره”. قد تكون مشقة الغسيل الكلوي الخيار الوحيد أمام كثيرين، لكن هناك حاجة لمزيد من الجهود لتخفيف معاناة مرضى الفشل الكلوي وتقليل أعداد الإصابة في مختلف الدول العربية.
العمق المغربي