قالت مجلة “إيكونوميست” إن الاتحاد الأوروبي يمول قوة تقوم بانتهاك روتيني للمهاجرين الأفارقة، مشيرة إلى خفر السواحل الليبيين الذين لم يعرف عنهم التميز بالمهنية العالية. وأضافت أن الرحلة التي قطعتها سفينة “جيو بارينتس” كانت طويلة ومتوترة وتميزت أحيانا بلحظات من الجهود المحمومة.
وتمايلت السفينة التي نظمتها منظمة أطباء بلا حدود في المياه الدولية بالبحر الأبيض المتوسط ولعدة أسابيع. وراقب طاقمها القوارب المحتشدة بالمهاجرين وكذا الدوريات التي يديرها خفر السواحل في ليبيا والتي هددت عمال الإغاثة من أية محاولة إنقاذ. وكان لاسلكي السفينة يخشخش بين الفترة والأخرى بتحذيرات من مسؤولي خفر السواحل “عليك الإبحار بعيدا عن المحور” و”إلا شاهدك المهاجرون وأبحروا صوبك”.
وفي حالة تحديد قارب للمهاجرين يتحرك الطرفان بسرعة في سباق من سيصل إليه أولا. وربح الليبيون السباق لعدة أيام. واستطاع خفر السواحل الذين عززتهم مسيرات ومروحيات حلقت في السماء وقف أربع طوافات محملة بالمهاجرين.
لكن سفينة أطباء بلا حدود استطاعت بعد أسبوع العثور على قارب وراء قارب للمهاجرين. وفي فترة قصيرة امتلأت السفينة بـ 300 مهاجر احتلوا كل شبر على أسطح السفينة. وهم من السنغال والسودان وسوريا وحمل الكثيرون معهم قصص الرعب عن الأوقات التي قضوها في ليبيا. وقدموا قصصهم إلى “أوت لو أوشين بروجيكت” وهي منظمة صحافية غير ربحية وتعاونت معها مجلة “إيكونوميست”. وتقول المجلة إن الاتحاد الأوروبي وبقيادة إيطاليا قام ومنذ عام 2017 بتدريب وتسليح خفر السواحل في ليبيا، كي تعمل كقوة بحرية وكيلة. فالمهاجرون الذين ينجحون بالوصول إلى أوروبا يحصلون على الدعم القانوني ودعم الصحافيين الذين يهتمون بوضعهم بالإضافة للدعم الصحي والإنساني.
ومن خلال العمل مع الليبيين فقد حرف الاتحاد الأوروبي وبشكل فعلي المسؤولية عن حدوده الجنوبية التي تمتد على مئات الكيلومترات إلى مكان لا توجد فيه هذه المزايا.
وتعلق المجلة “لو كان الهدف هو منع المهاجرين من الوصول إلى الشواطئ الأوروبية، فإنه نجح”.
ويقوم الليبيون كل عام باعتراض عشرات الآلاف من المهاجرين. وتقدر منظمة الهجرة التابعة للأمم المتحدة أن عدد المهاجرين الذين يصلون إلى إيطاليا بالبحر انخفض إلى 44% من عام 2017 إلى 2021. وبالنسبة للمهاجرين فإن السياسة الأوروبية كانت كارثة عليهم، وكمقياس عن هذا الخطر النابع من تقدير عدد الوفيات في محاولات العبور التي كانت نسبتها في عام 2015 واحدا من كل خمسين، ولكنها زادت إلى نسبة واحد من كل عشرين في عام 2019. وهناك مقياس آخر يعتمد على عدد الذين يصلون إلى أوروبا بدلا من تقدير حالات الوفاة عبر المحاولات وزاد بنسبة أربعة أضعاف.
ومن لا يستطيع الوصول إلى أوروبا وهم بعشرات الآلاف يتم احتجازهم في معسكرات بائسة ومزدحمة في ليبيا. وهناك يتعرضون للتعذيب وعمالة السخرة والابتزاز من حراس السجن. واعترف الاتحاد الأوروبي بأنه لا يسيطر على شركائه، ومع ذلك يواصل ضخ المال إلى البرنامج.
وكانت ليبيا دائما نقطة انطلاق إلى أوروبا حيث استخدم الرئيس الليبي السابق معمر القذافي المهاجرين لابتزاز الجيران الأوروبيين. وفي عام 2010 طلب 5 مليارات يورو من الاتحاد الأوروبي لكي يوقف موجات المهاجرين عبر البحر. وحذر قائلا إن البديل عن هذا هو تحول أوروبا إلى أفريقيا أو “سوداء”. ولم يعش القذافي طويلا ليحصد نتائج ابتزازاته، فقد أطيح به بعد عام بثورة دعمها حلف الناتو وعدد من الدول العربية وقتل لاحقا على يد مسلحين ثاروا عليه. وأدخلت الثورة ليبيا في مرحلة من الفوضى التي لم تخرج منها بعد. فلم تضع الميليشيات التي أطاحت بالقذافي سلاحها بل وخاضت معارك مهلكة من أجل السلطة والثروة.
وفي عام 2019 قام خليفة حفتر، الجنرال العسكري الذي تحول إلى أمير حرب بالزحف نحو العاصمة طرابلس من قاعدته في بنغازي على أمل الإطاحة بالحكومة التي دعمتها الأمم المتحدة هناك. وهنا تدخلت القوى الخارجية بما فيها فرنسا وتركيا وروسيا والإمارات العربية المتحدة ولعبت دورها بدعم طرف ضد طرف. وفشلت عملية الغزو التي قادها حفتر، ولا يزال البلد منقسما بناء على الخطوط الجغرافية والقبلية. وتم تأجيل انتخابات رئاسية كانت مقررة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وذلك بسبب عدم وجود دستور وإطار قانوني مناسب للتصويت. واقترحت المفوضية الوطنية للانتخابات تأجيل الانتخابات إلى 24 كانون الثاني/يناير ويبدو هذا طموحا أكثر من كونه واقعيا.
وفي غياب الحكومة القادرة على التحكم بالحدود، فقد حاول مئات الآلاف من المهاجرين الوصول إلى أوروبا عبر البلد، ووصلت الذروة في 2016 حيث عبر أكثر من 181.000 مهاجر البحر المتوسط باتجاه أوروبا. ولم يأت كلهم من أفريقيا، فبعد إغلاق المعبر الشرقي بعد توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق مع تركيا في عام 2016، حاول مهاجرون من دول الشرق الأوسط الوصول إلى أوروبا عبر ليبيا. وفي العام الماضي نجح آلاف من العراقيين والإيرانيين والسوريين بالوصول إلى أوروبا من ليبيا.
وحاولت الدول الأوروبية الحصول على مساعدة من الميليشيات التي تسيطر على كل شيء في ليبيا بعد الثورة. وخفر السواحل هي واحدة من المؤسسات. فرغم اسمها إلا أنها مكونة من خفر محليين تسيطر عليهم جماعات مسلحة. وبناء على توجيه من إيطاليا أنفق الاتحاد الأوروبي عشرات الملايين لبنائها. وقدم لها ستة قوارب مصنوعة من الألياف الزجاجية وعشرات من عربات الدفع الرباعي ومئات من الملابس الرسمية وأجهزة اللاسلكي والهواتف الفضائية. وتعهدت المفوضية الأوروبية قبل فترة ببناء “مركز قيادة محسن” والتبرع بثلاث سفن أخرى. وتقوم وكالة “فورتيكس” التي تقوم بعمليات رقابة جوية بتحذير السلطات الإيطالية وأحيانا المالطية التي تقوم بدورها بإبلاغ حرس السواحل الليبيين. ويدفع الاتحاد الأوروبي كلفة العناية بالمهاجرين الذين يتم احتجازهم، بما في ذلك الفراش الذي ينامون عليه والصابون الذي يستحمون به وسيارات الإسعاف لنقلهم إلى المستشفيات وفي حالة وفاتهم تتكلف بالأكياس التي يلفون بها ونقلهم إلى بلادهم.
ويتم احتجازهم في مراكز اعتقال تديرها الميليشيات حيث يجبر المهاجرون الذين يحتجزون بذريعة تطبيق قانون الهجرة على الاتصال بعائلاتهم لكي ترسل لهم المال حتى يتم الإفراج عنهم (بمعدل 500 دولار للشخص). ويجبر آخرون للعمل في مواقع البناء والمزارع، أما النساء فيجبرن على الدعارة. وتنتشر في المراكز الانتهاكات التي وثقتها منظمة أمنستي إنترناشونال في تقرير لها نشرته في تموز/يوليو، وبخاصة مركز المباني بطرابلس. وحاولت مهاجرتان الانتحار فيه. وفي العام الماضي أطلق حرس المركز الرصاص على المعتقلين وقتلوا ستة أشخاص. ومات مهاجر إريتري حرقا عام 2020 بعد اندلاع النار في مركز آخر. ولن تتحسن الأمور في المعتقلات قريبا. ففي كانون الأول/ديسمبر عينت الحكومة الليبية محمد الخوجة كمدير لجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، ولكي يشرف على 15 مركز اعتقال للمهاجرين. وأدار الخوجة في السابق أحد أشهر السجون الليبية سيئة السمعة والتي كانت فيها الانتهاكات أمرا عاديا.
وفي 10 كانون الثاني/يناير داهمت السلطات معسكرا للمهاجرين في طرابلس واحتجزت أكثر من 600 شخص. ولا ينكر المسؤولون الأوروبيون أن الظروف في المعتقلات قاتمة، ففي تقرير مسرب عام 2019 اعترفت الكتلة الأوروبية بأنها لا تملك القدرة الكافية على مراقبة نشاطات خفر السواحل. وفي تشرين الأول/أكتوبر أصدر قاض إيطالي قرارا بسجن قبطان سفينة عاما لأنه أعاد 101 من المهاجرين الذين علقوا في البحر إلى إيطاليا.
وبحسب القانون الدولي كان يجب نقلهم إلى أقرب مرفأ وليبيا لم تكن من بينها. ومع ذلك حاول الاتحاد الأوروبي إبعاد عمال الإغاثة وأهل الخير عن المهاجرين. في عام 2018 طلب من منظمة الملاحة الدولية، وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة لإنشاء “محور بحث وإنقاذ” طوله 100 كيلو متر من السواحل الليبية. وهو ما وسع اختصاص خفر السواحل قريبا من المياه الدولية. ومنذ 2018 أصبحت الموانئ مغلقة أمام السفن التي تديرها الجماعات الإنسانية مثل أطباء بلا حدود حيث قامت قوى البحرية الأوروبية بعرقلة عملياتها في البحر الأبيض المتوسط. وهذا يعني أن سفنا مثل جيو بارينتس التي تحمل المهاجرين ستظل عالقة في البحر لعدة أسابيع. ومن أجل تمضية الوقت صلوا ولعبوا الألعاب ورقصوا وتصارعوا وتشاركوا في تجربتهم القاسية التي مرت عليهم في ليبيا، كنوع من التنفيس الجماعي. وشهد شخص قتل اثنان من أصدقائه بمركز احتجاز، ولطخ الدم ثيابهما. وتعرض آخر للضرب المبرح من خفر السواحل بعد محاولة عبور فاشلة.
وقال مهاجر بنغلاديشي إن والده باع مزرعته لتأمين مبلغ مالي يؤمن الإفراج عنه. و”عندما يمتلئ القارب يبحر لأيام باحثا عن ميناء يقبل بتنزيل حمولته البشرية”. وقال أحد أعضاء طاقم السفينة عبر مكبر صوت “الأمر ليس بيدنا” ولكنه أكد للركاب “تستطيعون نسيان ليبيا”.